موسكو | حدَّدت روسيا عملتها الوطنية وسيلةً وحيدة لتسديد الأوروبيين ثمن الغاز الذي يستوردونه منها، في خطوةٍ تعني، في ما لو وافقت الدول المستوردة مضطرّةً على ذلك، إقبالها على شراء الروبل الذي يتوقَّع الخبراء انتعاشه جرّاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي وُصِف بـ»التاريخي»، كونه يضع زبائنه أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أن تستوردوا غازنا بعملتنا، أو أن تجدوا بديلاً في أسرع وقتٍ ممكن. تدرك روسيا أن الخيار الثاني ليس وارداً في المدى المنظور، نظراً إلى الوقت (يُقاس بالسنوات) الذي يحتاج إليه الأوروبيون المعتمِدون بنسبة كبيرة على الغاز الروسي، للتحوّل إلى بديل آخر، وما سيعقب رفضهم قرار روسيا، من تأزُّم على المستويَين الاقتصادي والاجتماعي
لم ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليحدِّد الأوروبيون ما إذا كانوا ينوون حظر استيراد النفط الروسي، بهدف زيادة الضغط على اقتصاد بلاده، بل استبق أيّ إجراء من هذا القبيل، بقرار «تاريخي» يشترط فيه على الدول التي وصفها بـ«غير الصديقة» أن تدفع بالروبل، لقاء الحصول على الغاز الروسي. قرارٌ يمثّل، وفق خبراء، خياراً أوّلَ للردّ على العقوبات الأوروبية والأميركية التي أنهكت روسيا، ومنعتها من الوصول إلى احتياطاتها المحفوظة لدى المصارف العالمية. وإذا كانت أصداء الخطوة الروسية قد وصلت فوراً إلى أسواق العملة، حيث تحسَّن سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو، وارتفعت أسعار الغاز في أوروبا، فقد تلقّاها الوسط السياسي والخبراء بإيجابية. ووصف رئيس مجلس الدوما، فياتشيسلاف فولودين، القرار بأنه «تاريخي»، ومن دونه «يستحيل تحقيق السيادة المالية والاقتصادية لروسيا»، معتبراً إيّاه «خطوة نحو إلغاء دَولَرة اقتصادنا»، فيما رأى رئيس لجنة حماية سيادة الدولة الروسية، أندريه كليموف، أن القرار «مهمّ لجهة تعزيز العملة الوطنية وتوسيع استخدامها»، موضحاً أن القواعد الجديدة «تؤكد الملاءة المالية لروسيا (أي قدرة روسيا على السداد، والوفاء بالالتزامات النقدية)».
وكان طُرح اقتراح تداول الروبل، للمرّة الأولى، في التسعينيات، وهدف طرحه، في حينه، من جانب رئيس المصرف المركزي فيكتور غيراشينكو، ورئيس الحكومة يفغيني بريماكوف، إلى مواجهة الإفلاس. ومع تبدُّل الأحوال، راهناً، في ظلّ الحرب القائمة، وما نتج منها من تداعيات على مستوى الاقتصاد الروسي بفعل حِزم العقوبات، صار لزاماً أن تخطو موسكو في ذلك الاتجاه. وفي هذا الإطار، يرى مدير مسائل الطاقة في «معهد الطاقة والتمويل»، أليكسي غروموف، أنه في سياق ضغوط العقوبات غير المسبوقة على روسيا، «يُعدّ هذا القرار صحيحاً من الناحية الاستراتيجية»، موضحاً أنه «بهذه الطريقة، سنضمن ارتفاع الطلب على العملة الروسية». من جهته، يقول الخبير البارز في «الصندوق الوطني لأمن الطاقة»، إيغور يوشكوف، إن القرار يمثّل «إنذاراً نهائياً من القيادة الروسية»؛ فعقود توريد الغاز الحالية مبرمة بالعملة الأجنبية، ولا تنصّ على التحويل إلى الروبل، ما يعني، بحسبه، أن شركة «غازبروم» ستضطرّ للتفاوض مع «شركائها» لتغيير العقود الحالية. ووفق يوشكوف أيضاً، فإن القرار ضروري لناحية دفع أوروبا إلى رفع العقوبات عن «المركزي» الروسي، خصوصاً أن الدول الأوروبية ستحتاج الآن إلى الروبل لدفع ثمن الغاز، وهي لا تملك احتياطات من هذه العملة، ما يعني أنها ستعمد إلى طلب العملة الروسية من المصرف المركزي «المعاقَب»، وهو ما سيدفعها إلى الالتفاف على العقوبات التي فرضتها.
يمثّل القرار خطوة نحو إلغاء دولرة الاقتصاد الروسي


أمّا الخبير المالي، غريغوري سوسنوفسكي، فيعتبر أن الانتقال إلى الروبل هو «الخطوة الأولى على طريق التخلُّص من دَولَرة الاقتصاد الروسي على المدى الطويل»، مبيّناً أنه بعد رفض العديد من الشركات الأوروبية التجارة مع روسيا، والذي أدّى إلى انخفاض حادّ في الواردات إضافة إلى تجميد احتياطات النقد الأجنبي الروسي باليورو، انتفت حاجة موسكو إلى اليورو كوسيلة للدفع أو للاستثمار. وبحسب رئيس البحوث التحليلية، دميتري ألكسندروف، فإن القرار، من الناحية النظرية، يخلق طلباً خارجياً على الروبل، وهو ما سيساهم في تعزيزه، فضلاً عن أنه سيجبر الشركات والدول على فتح حسابات دائمة للتجارة في روسيا. ويؤكد المحلّل المالي في «BitRiver»، فلاديسلاف أنتونوف، بدوره، أن القرار يمثّل «تحوّلاً جذرياً في هيكل سوق العملات العالمية، وسيكون له تأثير إيجابي على رفاهية العملة الروسية»، لافتاً إلى أن «التجارة الخارجية للروبل عامل قوّة لروسيا، عبر ضغط العملة الوطنية على عملات العالم الأخرى». ويشير أنتوتوف، في تصريح إلى صحيفة «إيزفتسيا»، إلى أن الروبل لا يحمل مخاطر سياسية، معرباً عن اعتقاده بأن هناك أسباباً تدعو إلى التفاؤل بإمكانية تحسُّن العملة الوطنية أمام الدولار على المدى القريب، وعودته إلى مستوى 75 روبلاً لكلّ دولار، في منتصف الصيف.
بالنسبة إلى أوروبا، فهي تدرك أنها غير قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسي، وقد أقرّ أكبر اقتصاداتها، ألمانيا، أن أيّ قرار في هذا الاتجاه سيضع الأسواق الأوروبية في حالة ركود، فضلاً عن أن الآلاف سيفقدون وظائفهم. والمسألة هذه واضحة ومعروفة بالنسبة إلى روسيا، التي تزوّد أوروبا بنحو 200 مليار متر مكعب (من مجموع 500 مليار). كما تدرك موسكو، وفق تصريح نائب رئيس الوزراء، ألكسندر نوفاك، أنه لا يمكن لأوروبا تعويض الغاز الروسي «لا في سنة، ولا بعد ثلاث سنوات، ولا حتى خمس». وانطلاقاً من هنا، يرى خبراء روس أن شركة «غازبروم» ستواجه، الآن، مفاوضات شاقّة مع الشركات الأوروبية، موضحين أن أمام الأوروبيين خيارَين: إمّا الاعتراف بالوضع المتعلّق بالعقوبات المفروضة على روسيا كقوّة قاهرة، والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع «غازبروم» وتغيير شروط العقد من حيث عملة الدفع للتوريدات؛ وإمّا اعتبار القرار انتهاكاً للشروط التعاقدية، ورفض الدفع بالروبل، وبالتالي خرق الاتفاق مع «غازبروم»، وتحجيم استيراد الغاز الروسي، وهو السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى موسكو.
مع هذا، هناك يقين لدى الخبراء بأن غالبية الدول الأوروبية لن تجرؤ على «الانتحار الاقتصادي»، ومواجهة خيار سياسي واجتماعي واقتصادي صعب، إذ إن رفْض دفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، سيؤدي إلى إثارة مشاكل اقتصادية واجتماعية داخلية في بلدان معيّنة. ولذا، ستكون الدول الأوروبية مضطرة للموافقة على القواعد الجديدة للّعبة التي فرضتها روسيا. وفي انتظار القرار الأوروبي، خرج تصريح مهمّ من ألمانيا عبر رئيس لجنة الطاقة في «البوندستاغ»، أكد فيه أن ثمن الغاز بالروبل ممكن تقنياً، لكن ذلك سيجبر الاتحاد الأوروبي على الالتفاف على العقوبات وإثارة المناقشات حول الحظر.