عزّزت الأزمات الجيوسياسية الأخيرة التفكير لدى الاتحاد الأوروبي في أنّه لا يمكنه الاعتماد كلّياً على الولايات المتحدة، أو «الناتو»، لحمايته. اعتقادٌ راح يتصاعد، وصولاً إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي دفعت القادة الدفاعيين في التكتل إلى البحث في ما يجب فعله، على المدى الطويل، بشأن أمنه الداخلي، حتّى وصل الأمر أخيراً إلى الإعلان عن مخطّطٍ للاستراتيجية الأمنية. إلّا أنّ «البوصلة الاستراتيجية للأمن والدفاع» ليست وليدة الأمس؛ إذ بدأ العمل لوضعها عام 2020، أي قبل تفشي جائحة «كوفيد - 19»، والانسحاب الفوضوي من أفغانستان، واندلاع حرب أوكرانيا. ولكن بحسب ما أشار العديد من الخبراء الأوروبيين، فقد كشف انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عن أحد التحدّيات الرئيسية، وهو أن بروكسل تحتاج إلى البدء أخيراً في التفكير في قضايا الدفاع والأمن الخاصّة بها. ووصل الأمر إلى أن أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، في أواخر آب الماضي، أن بروكسل بحاجة إلى استخلاص الدروس من تجربة أفغانستان، وإلى أن تكون قادرة على التصرّف بشكل مستقل. إعلانٌ جاء في أعقاب المناقشات التي جرت في أيار الماضي، حين وافقت 14 دولة في الاتحاد الأوروبي، بما فيها فرنسا وألمانيا، على إنشاء قوة عسكرية مشتركة، بحلول عام 2025.هذه القوة تحوّل الحديث عنها، لاحقاً، إلى مخطّط فضفاض جرى تقديمه، فعلياً، إلى الدول الأعضاء، في تشرين الأول الفائت. وقد تضمّن الاقتراح الرئيسي، آنذاك، فكرة أن يتمتّع الاتحاد الأوروبي بالقدرة على النشر السريع لما يصل إلى 5 آلاف جندي للتعامل مع العديد من الأزمات المحتملة. وبدلاً من قوة دائمة مسؤولة أمام قائد في بروكسل، ستكون تلك المجموعات مشكّلة من قوات من جميع الدول الأعضاء المشاركة، للتعامل مع مهامّ محدّدة، وتتمّ قيادتها على مستوى الاتحاد. ويمكن أن تتراوح المهام ما بين عملية إجلاء، كما هي الحال في أفغانستان، إلى حفظ السلام على الحدود، أو المهام الإنسانية. كذلك، تتحدّث الوثيقة عن الحاجة إلى نهج مشترك في مشتريات الدفاع والبحث والاستخبارات، ما يجعل الكتلة أكثر تنافسية وكفاءة. وهي تقرّ بأنّه للقيام بهذا، يجب زيادة الإنفاق على المستوى الوطني وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، والتركيز على سدّ الفجوات الموجودة حالياً في جميع أنحاء الاتحاد ككلّ. وبالرغم من أنّه لن يُطلب من جميع دول التكتل الـ 27 المشاركة، إلّا أنّ نشر القوات سيتطلّب موافقتها جميعاً.
قد يبقى الأمر عبارة عن قصّة طويلة ومعقّدة تتمثّل في «احتمال إنشاء هوية دفاعية للاتحاد الأوروبي»


ولكن ماذا يعني هذا القرار ككُل؟ يريد نصف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إنشاء بعض المجموعات القتالية، بهدف التصدّي لقضايا ناشئة، سواء كانت ضغوط الهجرة، أو عدم الاستقرار الإقليمي، أو التهديدات الإرهابية. وستسمح الخطة أيضاً لقوات الاتحاد بتوفير قدر أكبر من المشاركة في المهام التي لا تشمل «الناتو» والأمم المتحدة، وفقاً لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين. إلّا أنّ بعض الأعضاء يعتقدون أنّ هذا الأمر سيخلق منافسة مع «الناتو» والولايات المتحدة. وليس من الواضح كيف ومَن سيموّل القوات العسكرية الإضافية، وهو ما لا يعدّ مصدر قلق بسيط، إذ إن غالبية تلك البلدان الـ 14 لا يمكنها أن تصل إلى هدف الإنفاق الدفاعي البالغ 2٪ داخل «الناتو». وليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها الاتحاد الأوروبي إنشاء جيش أو قوة خاصّة به. فقد ظلّ قادة الاتحاد يتحدّثون عن ذلك منذ أكثر من ثلاثة عقود، أولاً في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي مباشرة، لاستعادة النظام في بلدان المعسكر السوفياتي السابق إذا لزم الأمر؛ ثم في عام 1999 في ذروة حرب كوسوفو، حيث ناقشوا إنشاء مجموعات قتالية مشتركة قوامها 1500 فرد. وخلال الحروب اليوغوسلافية، كانت هناك محاولة لإنشاء جيش قوامه 50000 جندي بحلول عام 2003، لكن ذلك لم يحدث أبداً. فقط في عام 2007، تمّ تشكيل مجموعتين قتاليتين من التكتل الأوروبي، ولكن لم تستخدما مطلقاً. وفي السياق، يلوم البعض الولايات المتحدة قائلين إنّ واشنطن لا تريد أن يكون للاتحاد جيشٌ خاص به. ويقول آخرون إن التكتّل هو الذي لم يفعل أيّ شيء للانتقال من الأقوال إلى الأفعال. وفي الوقت نفسه، ثمة مشكلة أخرى أكثر خطورة، تتمثّل في أنه يجب تغيير المعاهدات الأوروبية للسماح لجيش الاتحاد بالعمل بكفاءة.
أخيراً، قد يبقى الأمر عبارة عن قصّة طويلة ومعقّدة، تتمثّل في «احتمال إنشاء هوية دفاعية للاتحاد الأوروبي». هذه القصّة استمرّ الحديث عنها إلى ما يقرب من 30 عاماً، حتّى قيل إنّها شيء يتحدّث عنه الجميع، لكن لم يره أحد.