موسكو | روسيا استمرّ، أمس، تتالي المؤشّرات إلى إحراز تقدّم في المفاوضات الروسية - الأوكرانية، في ظلّ حديث المفاوضين الروس عن «اقترابنا من التوافق مع أوكرانيا بشأن وضعها المحايد وعدم انضمامها إلى النيتو ونزع سلاحها». وبينما استمرّ الضغط الأميركي على بكين في محاولة لثنيها عن موقفها المؤيّد لموسكو، من دون أيّ علامة على نجاح تلك المحاولات إلى الآن، تصاعَد الحديث عن نيّة القوى الغربية، وخصوصاً واشنطن، تزويد كييف بأسلحة «كاسرة للتوازن»، وهو ما تبدو روسيا متنبّهة إليه جيداً، وفق ما يُظهر أداؤها الميداني الذي يتركّز، في جانب منه، على توجيه ضربات «عالية الدقة» إلى مراكز إمداد القوات الأوكرانية على الحدود
في الذكرى الثامنة لاستعادة روسيا جزيرة القرم، خاطب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الشعب الروسي بلغة تلامس وجدانه وذاكرته. أراد بوتين من الذكرى التي تتزامن هذا العام مع العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أن تُظهر وحدة الشعب الروسي بشأن ما يحصل حالياً، عبر تذكيره بالعبارة التي يُفتتح بها الدستور الروسي وهي أن «الشعب الروسي متعدّد الجنسيات، لدينا مصير مشترك، نقطن في أرضنا». خاطب بوتين الروس بلغة الأخوّة العسكرية، التي تحتلّ مكانة في وجدان الشعب الروسي منذ زمن القياصرة، مروراً بالاتحاد السوفياتي، وليس انتهاءً بروسيا الحديثة. كذلك، رفع منظّمو الفعالية التي أقيمت بالمناسبة، شعار «من أجل عالم خالٍ من النازية»، في إشارة إلى النازيين الجدد في أوكرانيا، والهدف من هذا الشعار أيضاً، حشد الروس خلف الرئيس والجيش في عمليّته، إذ إن محاربة النازية تمثّل محطّ إجماع لدى جميع الروس بكلّ قومياتهم، وهم لا يزالون يحفظون في وجدانهم وذاكرتهم خطر النازية عليهم منذ الحرب العالمية الثانية.
بالعودة إلى الخطاب، لم يتحدّث بوتين عن أيّ خطط مستقبلية، ولا عن مجريات العملية العسكرية، إلّا أنه أكد أن روسيا «تعلم ما يجب فعله في المستقبل، وستُطبّق بالضبط كل الخطط المطروحة». وجدّد القول إن هدف العملية العسكرية الحالية هو وضع حدّ لـ»إبادة جماعية» تعرّض لها سكّان منطقة دونباس، مشيداً ببطولة العسكريين الروس المشاركين في الحملة، قائلاً: «لم نرَ مثل هذه الوحدة منذ وقت طويل». من جهة ثانية، أعلم بوتين، المستشار الألماني أولاف شولتز، في مكالمة هاتفية، أن كييف تحاول تعطيل محادثات السلام مع موسكو. وقال الكرملين، في ملخّص للمكالمة: «أشرنا إلى أن نظام كييف يحاول بشتّى الطرق تأخير عملية التفاوض، من خلال طرح المزيد والمزيد من المقترحات غير الواقعية». وأضاف: «وعلى الرغم من ذلك، فإن الجانب الروسي مستعدّ لمواصلة مساعي البحث عن حلّ بما يتّفق مع توجّهاته المبدئية المعروفة جيداً». من جهته، ذكر متحدّث باسم الحكومة الألمانية أن شولتس شدّد خلال المحادثة التي استمرّت قرابة ساعة، على ضرورة تحسين الوضع الإنساني، و»الحاجة إلى إحراز تقدّم في البحث عن حلّ دبلوماسي في أسرع وقت ممكن».
في غضون ذلك، هاجم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الغرب، واتّهمه بالعمل على تحويل أوكرانيا إلى دولة معادية لروسيا، وممارسة ضغط غير مسبوق على موسكو، والسعي لتهميشها ووقف تطورها، مؤكداً أن العقوبات جعلت روسيا أقوى، وأن بلاده ستعدّل اقتصادها لتخطّي تأثير الحصار. وقال لافروف، في مقابلة حصرية مع شبكة «روسيا اليوم»، إن هناك عدداً من الدول كالصين والهند والبرازيل والمكسيك لن تنصاع لإملاءات الولايات المتحدة، متّهماً الأخيرة بالسعي إلى إعادة العالم إلى نموذج أحاديّ القطب، مشدّداً على أن روسيا لن تقبل أبداً رؤية عالم تهيمن عليه أميركا التي تريد أن تتصرّف باعتبارها «شرطياً عالمياً». كما أكد أن أيّ شحنات أسلحة تصل إلى أوكرانيا من الخارج ستُشكّل هدفاً عسكرياً مشروعاً لروسيا، مضيفاً إن تسليم أيّ منظومات دفاعية سوفياتية وروسية الصنع مثل «إس-300» من دول أخرى إلى أوكرانيا، سيكون خطوة غير قانونية و»روسيا لن تسمح بذلك».
اتّهم لافروف الغرب بالعمل على تحويل أوكرانيا إلى دولة معادية لروسيا، والسعي لتهميش الأخيرة


وعلى وقع التهديدات الأميركية المتزايدة للصين بأنها ستواجه تبعات إذا قدّمت الدعم لروسيا، جرت مكالمة هاتفية بين الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والرئيس الأميركي، جو بايدن. ونقلت «رويترز» عن وسائل إعلام صينية رسمية قولها إن شي أكد لبايدن أن «النزاعات والمواجهات ليست في مصلحة أحد»، وأن «السلام والأمن هما أثمن ما لدى الأسرة الدولية»، معتبراً أن على بكين وواشنطن «توجيه علاقاتهما نحو المسار الصحيح، والتعاون من أجل السلام العالمي». بدورها، شدّدت وزارة الخارجية الصينية على أن مفتاح حلّ الأزمة الأوكرانية في أيدي الولايات المتحدة و»الناتو». وقال المتحدّث باسم الوزارة، تشاو لي جيان، في مؤتمر صحافي، إن «المتسبّبين في نشوب الأزمة الأوكرانية يجب أن يفكّروا جيداً في دورهم فيها، ويتحمّلوا بجدّ مسؤولياتهم الواجبة، ويتّخذوا خطوات عملية لتخفيف حدّة الوضع وحلّ المشكلة، بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين».
ميدانياً، أعلنت قوات دونيتسك الشعبية أن 90% من مساحة ضواحي جمهورية لوغانسك الشعبية باتت مُحرَّرةً من القوات الأوكرانية. كما أعلنت أن القوات الروسية تحمي أجواء الجمهوريتَين الشعبيتَين بمظلّة دفاع جوّي محكمة. وجاء ذلك في وقت واصلت فيه القوات الروسية تقدّمها في اتّجاه المحاور الشمالية لجمهورية دونيتسك الشعبية، حيث أحكمت السيطرة على قرى زولوتايا نيفا، نوفومايورسكويه، نوفودانيتسكويه، وبريتشيستوفكا، لتُسجّل توغّلاً بعمق 16 كلم خلال الساعات الـ 24 الماضية التي سبقت البيان الأخير لوزارة الدفاع. أمّا في مدينة ماريوبول البحرية الاستراتيجية المطلّة على شمال بحر أزوف، فمن المتوقّع إنجاز عملية تأمين المدينة، وإخلائها مما تبقّى من المجموعات اليمينية المتطرّفة، خلال الساعات المقبلة. وكانت القوات الروسية قد تمكّنت من إخراج ما يزيد على خمسين ألف مواطن من داخل ماريوبول، خلال اليومَين الماضيَين، عبر الممرّات الإنسانية التي استطاعت فتحها.
وبحسب توقّعات الخبير في العلوم العسكرية والأستاذ المحاضر في أكاديمية الدفاع الصاروخية والمدفعية الروسية، قسطنطين سيفكوف، فإن الخطوة القادمة بعد تحرير ماريوبول، هي الاتجاه من نيقولايف شمالاً للوصول إلى ضواحي العاصمة كييف الجنوب غربية، عبر شرق مقاطعة فينيتسا. وبذلك، يتمّ فصل شرق أوكرانيا بما فيه العاصمة، عن المناطق الغربية المحاذية لرومانيا وبولندا والمجر. ويعتقد سيفكوف أن هذا التحوّل سيسبق عملية السيطرة على مدينة أوديسا الواقعة جنوب غرب القسم الشرقي من أوكرانيا، بالقرب من منطقة بريدنيستروفيا المعلَن استقلالها الأحادي في جمهورية مولدوفيا، بالقرب من الحدود الرومانية. ووفقاً للسيناريو المتقدّم، تصبح مناطق بولتافا، كيروفوغراد، الدنيبر، وتشيركاسي مطوَّقة من جميع الجهات، وهي العمق الجغرافي الأوكراني الأوسع، وتتركّز فيها (حول ضفّتَي وسط نهر الدنيبر) معظم تشكيلات القوات الأوكرانية الأساسية المتبقّية في الشرق والوسط. وبينما يتواصل العمل على تشديد السيطرة على ضواحي المدن الكبرى وتأمينها، مِثل كييف وخاركوف، وقطع خطوط الإمداد المؤدّية منها وإليها، يُتوقّع أن تكتمل هذه العملية من اتّجاه جنوب غرب العاصمة، نزولاً باتجاه الجنوب، لتلتقي مع القوات الروسية المتقدّمة من نيقولاييف شمالاً، ومن ثمّ التشكيلات السائرة بمحاذاة شرق فينيتسا.
ويرى سيفكوف أن الأميركيين يرغبون في تحويل مسرح العمليات الأوكراني إلى ما يشبه سيناريو أفغانستان، عبر ضخّ وسائل دفاع جوي ومضادّات دروع وأسلحة وذخائر نوعية بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا. لكن القوات الروسية، بحسب الخبراء العسكريين، لن تتهاون في مسألة استهداف شحنات السلاح الغربي، وخصوصاً مع تواتر معطيات حول نيات غربية لتزويد نظام كييف بمنظومات دفاع جوي متوسّط المدى، ذات فعالية أكبر من تلك المحمولة على الكتف من طراز «ستينغر»، المتوفّرة حالياً لدى القوات الأوكرانية. أمّا بخصوص مدينة أوديسا البحرية، فلا تخشى القوات الروسية من تأخّر عملية السيطرة عليها، بالنظر إلى أن السفن الحربية الروسية تشرف عليها نارياً من البحر. وعلى رغم أن القوات الأوكرانية زرعت أعداداً كبيرة من الألغام البحرية بالقرب من شواطئها، إلّا أنه بحسب تقديرات سيفكوف، وهو ضابط بحرية سابق، فإن هذه الألغام لن تشكّل عائقاً لا يمكن تجاوزه من قِبَل قوات الإنزال البحري (الإبرار) الروسية المرابطة على طول حدود شمال البحر الأسود وبحر أزوف. ويرى الخبير الروسي أن الغرب أدرك أن الوضع ميدانياً خرج عن سيطرته، متحدثاً عن إمكانية محاولة القوى الغربية الزجّ بـ»قوات حفظ سلام» في مسرح العمليات الحربية، وهو ما يهدّد بمواجهة مباشرة مع روسيا.