هل أخذت دول الخليج قراراً بتنويع علاقاتها الدولية ورهاناتها إزاء المخاطر المتزايدة في عالم اليوم؟ أم أنها قرّرت، بالمرّة، نقل الرهان تماماً إلى الشرق، كما يحلو لوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن يوحي؟ أم هي فقط تبتزّ الغرب الذي كاد يتخلّى عن حمايتها، ليعود إلى ضمان أمن أنظمتها، والذي تبدو العودة إليه مكلفة مالياً وأخلاقياً، وقد لا تكون في متناول الدول الغربية، حتى إن أرادت ذلك، في ما يعكس تحوّلاً فعلياً في موازين القوى العالمية لغير مصلحتها؟ أسئلة كثيرة تُثار اليوم في شأن سلوك هذه الدول، فيما لا تبدو زيارة مسؤول غربي من هنا، وآخر من هناك، كافية وحدها لحسمها
لا تقتصر حال المهانة التي بدا عليها رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، في السعودية والإمارات، عليه وحده، بل تنسحب على الغرب كلّه، الذي جاء جونسون باسمه «حاملاً الطاقية في يده»، على حدّ وصف نائبة رئيس حزب «العمال» المعارض، أنجيلا راينر. فالغرب معتاد في الخليج على أن يأمر فيُطاع. في السعودية والإمارات، كما في الوطن، كان رئيس وزراء بريطانيا عرضة للسخرية، فلا هو نال رضا السعوديين الذين أخذوا عليه، وعلى الغرب، أنهم يكرّرون الفعل الدنيء نفسه بـ«حلْب» الحلفاء، ثمّ ترْكهم بلا حماية إذا ما تعرّضوا لمخاطر داخلية أو خارجية، ولا هو نجا من حملة ضارية تعرّض لها في بريطانيا لأنه جلب العار لبلاده حين صافح ابن سلمان بعد أيام قليلة على الإعدامات التي طاولت 81 شخصاً في السعودية، وفي اليوم نفسه الذي أعدمت فيه المملكة ثلاثة آخرين. وبينما سمّاه بعض السعوديين على وسائل التواصل الاجتماعي بـ«التيس الأشقر»، إمعاناً في إهانته، استُقبل جونسون في مطار الرياض من قِبَل نائب أمير الرياض، محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وفي أبو ظبي من وزير الدولة لشؤون «المجلس الوطني الاتحادي»، أنور قرقاش، في مظهر هزيل غير خافي الدلالات.
ليس معروفاً عن جونسون في العالم أنه صاحب ضمير، ولكنه يدرك على وجه الدقّة مزاج الرأي العام في بلاده، ويعرف أن وضع يده في يد ابن سلمان مسيء له ولبريطانيا على الساحة العالمية. ومع ذلك، فإنه تحدّث عن «تغييرات» تشهدها المملكة، في نفاق مفضوح لم يخجل به الوزير الأول، الذي يسعى إلى إدانة روسيا ومعاقبتها على ما يدّعيه من انتهاكات تقوم بها في أوكرانيا، بينما يبرّر أفعال رجل أشرف لتوّه على هذا الكمّ من الإعدامات. الأسوأ أنه بعد كلّ ما تَقدّم، أخفق جونسون في الحصول على ما يريد من السعودية والإمارات، اللتين أبلغتاه مرّة أخرى رفضهما زيادة إنتاج النفط لتعويض النفط الروسي في حال انضمّت دول أوروبا التي تستورد نفطاً من روسيا، ومنها بريطانيا، إلى حظر واردات الطاقة الروسية إليها. وكان جونسون يراهن على هذه الزيارة لوضع استراتيجية نفطية جديدة لبريطانيا سيعلن عنها الأسبوع المقبل، وما ظهر منها هو أنها تتضمّن انسحاباً من الاعتماد على النفط الروسي.
لم تَعُد الأنظمة الخائفة في السعودية والإمارات والخليج عموماً مستعدّة، على ما يبدو، لتقديم هدايا مجانية للغرب


لم تَعُد الأنظمة الخائفة في السعودية والإمارات والخليج عموماً مستعدّة لتقديم هدايا مجّانية للغرب. ولأن جونسون لا يملك ما يقدّمه لهم لقاء ما يطلبه، وهو يرقى عملياً إلى فرط تحالف «أوبك+» مع روسيا، والوقوف ضدّها في حرب أوكرانيا، أي التخلّي عن أسباب قوّتها الحالية، فإنه عاد إلى لندن خالي الوفاض، إلّا من اتفاق ثنائي على إقامة مجلس شراكة استراتيجي بين البلدين، لا يفيد في شيء في الصراع العالمي الكبير على النفوذ الدائر على أرض أوكرانيا. ففي هذا الصراع، تموضعت السعودية والإمارات مرحلياً حيث تريان مصلحة نظامَيهما، أي الالتزام بموجبات التحالف النفطي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأخذ مسافة من الغرب سياسياً، مع ميل إلى الروس، أو خوف منهم. ذات يوم، نعَت باراك أوباما، الذي كان قائداً للمجموعة الحاكمة الحالية في واشنطن بكامل عناصرها، حكّام الخليج الذين يعتمدون على بلاده للدفاع عنهم بأنهم «ركّاب بالمجان». وكانت هذه فقط نصف الحقيقة، فالولايات المتحدة استفادت طويلاً وكثيراً من خدمات تلك الدول. وما يعرضه الآن جونسون باسم الرئيس الأميركي، جو بايدن، والغرب عموماً يعني عملياً أن هؤلاء سيكونون «ركّاباً بالمجان»، على حساب دول الخليج.
في سياستها الجديدة إزاء ذلك، حقّقت أنظمة الخليج انسجاماً مع أحد مطالب شعوبها، ولو مؤقّتاً؛ فالمشاعر المعادية للطبيعة الانتهازية لأنظمة الغرب، ظهرت جليّة على وسائل التواصل الاجتماعي، بما يتجاوز ما يمكن أن تحشده الجيوش الإلكترونية التابعة لتلك الأنظمة. لكن الحقيقة الأهمّ التي أظهرها أسلوب التعامل الخليجي مع أميركا وحلفائها، هو تراجع سطوة هؤلاء عالمياً، بحيث ما عادوا يستطيعون، حتى إذا افترضنا أنهم يريدون، حماية أنظمة الخليج التي دخلت كما يبدو في زمن تنويع علاقاتها الدولية، ودراسة تموضعاتها، واستخدام إمكانياتها الكبيرة في حماية نفسها من التهديدات الداخلية والخارجية. هذا ما تؤكده أيضاً حقيقة أن أميركا، مثلاً، عندما تريد مواجهة الصين، يتعيّن عليها الانسحاب من الشرق الأوسط، وفقدان القدرة على حماية الخليج. وذلك ناجم عن تصاعد قوّة الخصوم، على المستوى العالمي أو على المستويات الإقليمية.
أن تُعلن السعودية، قبل يومين، أنها تدرس بيع النفط إلى الصين باليوان، فذلك تلويح بإحدى أوراق الضغط الكبيرة، حتى لو كان الوصول إلى مثل هذه المرحلة يحتاج إلى وقت وظروف مناسبة. ويبدو أن الحاكم الفعلي للسعودية صار يعرف كيف يتعامل مع الأميركيين، فهو إن لم يكن قد خَبِرهم بنفسه أو خَبِر السياسة عموماً، إلّا أنه يحيط نفسه ببعض أكثر مَن عرفوا الولايات المتحدة، مِن مِثل بندر بن سلطان وتركي الفيصل، اللذين تناوبا على منصبَي السفير في أميركا ورئيس الاستخبارات العامة السعودية، لعشرات السنين، ويحتلّ بعض أبنائهما مناصب مهمّة في إدارة ابن سلمان. كما أن الخليجيين رأوا بأمّ عينهم الهَبّة الغربية للدفاع عن أوكرانيا، بينما هم لم يسمعوا سوى معايرة أميركية بأنهم لولا حماية الولايات المتحدة، لكانوا يتحدّثون الفارسية الآن. ولكن الوقاحة الأميركية في الإلحاح لا تتغيّر؛ فقبل عودة جونسون خائباً، قرّرت أميركا إيفاد وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، إلى السعودية والإمارات في وقت لاحق من الشهر الجاري، غير أن النبأ استُقبل سعودياً بالفتور نفسه، ما يعني أن المسألة لن تكون أكثر من تكرار يشير إلى إفلاس الغرب، بخاصة أن صحيفة «وول ستريت جورنال» كانت قد ذكرت أن ابن سلمان ومحمد بن زايد رفضا الردّ على اتصالات بايدن.