دمشق | يبدو أن الولايات المتحدة بدأت، بالفعل، محاولاتها تسخير الساحة السورية لصالح صراعها مع روسيا؛ إذ إلى جانب المساعدات العسكرية الجديدة التي أرسلتها إلى «قسد»، بدأت بحث إمكانية استثمار الاستثناءات التي ستمنحها للأخيرة من قانون «قيصر»، توازياً مع سعيها إلى تشكيل تحالف موحّد بين فصائل المعارضة والأكراد. وإذ تستهدف واشنطن، من خلال ذلك، الالتفاف على الجهود الروسية للتحكّم بمسار التسوية مع «قسد»، فإن الفصائل الكردية سرعان ما استجابت للجهود الأميركية، وعادت إلى تفعيل خطابها التصعيدي السابق، في انتظار إنفاذ الوعود الأميركية، التي تراها أكثر صدقيّة هذه المرّة
بينما صعّدت واشنطن من حدّة تصريحاتها ضدّ دمشق، بالتزامن مع الذكرى الحادية عشر لاندلاع الانتفاضة، كثّفت لقاءاتها مع مسؤولين من «قسد» لمناقشة سبل «استثمار» الاستثناءات التي ستمنحها لمناطق خارجة عن سيطرة الحكومة السورية من قانون العقوبات (قيصر)، على أن لا تشمل منطقتَي إدلب وعفرين. ورسمت هذه اللقاءات، في محاولة واضحة لإحداث خرق في الأوضاع الراهنة، خريطة طريق للأكراد، تسعى من خلالها إلى نقلهم بشكل تدريجي إلى خانة المعارضة، الأمر الذي يبدو أن الهدف منه إعطاء زخم أكبر للأخيرة، التي فشلت طيلة السنوات الـ11 الماضية في إثبات نفسها على الساحة السياسية، كما في تمثيل الجماعات المسلّحة التي تسيطر على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة في الشمال، والتي تتبع بشكل مباشر لتركيا، وتعادي «قسد». اللافت في الجهود الأميركية الجديدة، بالإضافة إلى تزامنها مع التوتر الروسي - الأميركي على خلفية الحرب في أوكرانيا، اشتمالها مسارات متعدّدة، حيث شاركت في اللقاءات الأخيرة وفود من أجهزة أميركية مختلفة (البنتاغون، البيت الأبيض، الخارجية، وكالة المخابرات المركزية). وتَرافق ذلك مع إرسال تعزيزات عسكرية إلى بعض المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، والعمل على فتح خطوط اتصال بين الأكراد وبعض الشخصيات المعارضة، والذي استهلّته واشنطن بدعم الحوار الكردي – الكردي بين «قسد» و«المجلس الوطني الكردي» المقرّب من أنقرة، بعدما تَوقّف خلال الفترة الماضية بسبب إصرار الأولى على الاستئثار بالمشهد السياسي والعسكري في المناطق الكردية، الأمر الذي لم تقبل به أحزاب «المجلس الوطني»، التي لا تملك تمثيلاً يضاهي «قسد» على الأرض.
وعُقد آخر اللقاءات بين مسؤولين من الولايات المتحدة و«قسد» يوم الإثنين الماضي، بحضور نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي إيثان غولدريتش، ونائبة مساعد وزيرة الخارجية لشؤون إيران والعراق جينيفر جافيتو، ومديرة شؤون العراق وسوريا في مجلس الأمن القومي الأميركي زهرة بيل. وبينما ذكرت الخارجية الأميركية أن النقاش دار حول الأوضاع الاقتصادية لمناطق «قسد» وسبل تنميتها، والآليات التي يمكن من خلالها استغلال استثناءات «قيصر»، أفادت مصادر كردية، «الأخبار»، بأن الاجتماعات الأخيرة تمحورت - على رغم تعدّد الأطراف الأميركية التي شاركت فيها -، حول تعزيز الحضور الكردي في المسألة السورية بشكل عام، ومحاولة تقليص الدور الروسي في مناطق «قسد»، عن طريق إيجاد سبل تنموية وطرق مستقرّة لإيصال المساعدات إلى تلك المناطق، بالإضافة إلى منح الأكراد فسحة أكبر للعب دور في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة عبر مسار «اللجنة الدستورية» الذي تمّ استبعاد الأكراد منه.
تسعى واشنطن لخلق حالة «عدم توازن» في سوريا في سياق احتدام الصراع الروسي - الأميركي


وبحسب المصادر، قدّم المسؤولون الأميركيون وعوداً للأكراد بمزيد من الدعم لضمان حالة «تنمية اقتصادية»، وهي وعود يمكن اعتبارها غير مسبوقة، في ظلّ السياسة الأميركية التي كانت متّبعة سابقاً، والتي كانت تتعمّد من خلالها الولايات المتحدة استمرار تقييد «قسد» لسهولة التحكّم بها، الأمر الذي أدّى، وفق ما نقل مسؤولون أكراد إلى الجانب الأميركي، إلى زيادة قنوات التواصل بينهم وبين روسيا، التي عمدت خلال السنوات الأربع الماضية إلى زيادة نفوذها وحضورها العسكري في مناطق شرق الفرات. وشدّدت الوفود الأميركية، أيضاً، على ضرورة تجاوز الصراع مع تركيا، عن طريق الانفتاح التدريجي للأكراد على المعارضة، ما يعني تنشيط الحوار مع «المجلس الوطني»، وهو ما سيفتح الباب أمام القوى الكردية للعب دور سياسي أكبر مستقبلاً. وبناءً عليه، وجّهت «قسد» بالاحتفال بذكرى الانتفاضة ورفع رايات المعارضة، في وقت خرجت فيه تصريحات عدة تُحمّل دمشق مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، أبرزها لقائد «قسد»، مظلوم عبدي، الذي اعتبر الأزمة الحالية امتداداً لأزمة الأكراد، في وقت دعت فيه إلهام أحمد، رئيسة الهيئة التنفيذية لـ«مجلس سوريا الديمقراطية» (مسد) - الذراع السياسية لـ«قسد»، المعارضة إلى «التوحّد من أجل الانتقال بسوريا إلى مستقبل أفضل».
وتأتي الجهود الأميركية الجديدة لخلق حالة «عدم توازن» في سوريا، عن طريق محاولة إنعاش المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، وزيادة الضغوط على دمشق، في سياق احتدام الصراع الروسي - الأميركي من جهة، وكجزء من سياسة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي أعاد الاهتمام بالقضية السورية، على عكس سابقه دونالد ترامب الذي أبدى تردُّداً أدّى إلى تراجع الحضور الأميركي في سوريا، من جهة أخرى. وتخلق هذه الجهود ظروفاً مواتية لـ«قسد» التي كانت تبحث عن فرصة لترسيخ سيطرتها، والسعي إلى الانفصال بأيّ شكل ممكن، كما تتيح لها مجالاً لتخفيف الضغوط التركية المتزايدة عليها، خصوصاً أنها جاءت هذه المرّة مدعومةً بمساعدات اقتصادية ودعم عسكري، على خلاف المرّات الماضية التي تركت خلالها الولايات المتحدة حليفتها في مواجهة الجيش التركي. وعلى الرغم من المعارضة التركية العلنية للجهود الأميركية الحالية، نتيجة العداء الكبير بين أنقرة والأكراد، تلقّى مسؤولو «قسد»، وفق المصادر نفسها، وعوداً بإيجاد صيغة تفاهم مبدئية مع تركيا، ضمن شروط محدَّدة، من بينها التخلّص من بعض القيادات المصنَّفين على لوائح الإرهاب التركية، بالإضافة إلى إعلان «قسد» انحيازها الواضح إلى المعارضة، على أن تأتي الاستثناءات من قانون «قيصر» لتمثّل خطوة ربط اقتصادية بين مناطق سيطرة الأكراد ومناطق سيطرة الفصائل الخاضعة للسيطرة التركية، الأمر الذي ترى واشنطن أنه سيؤسّس لعلاقات مصلحة متبادلة تؤدّي إلى تخفيف التوتر.
ويمكن لِما سبق أن يفسّر ارتفاع حدّة التصريحات الكردية المعادية لدمشق، ومحاولات «قسد» منع إتمام المصالحات التي تعمل عليها الحكومة السورية في مناطق سيطرة الأكراد، وملاحقة مَن يشارك فيها، وحملة الاعتقالات الواسعة التي شنّتها «قسد» أخيراً ضدّ هؤلاء. وترى «الإدارة الذاتية» أن هذه المصالحات «تشكّل خطراً كبيراً على المشروع الكردي الذي بدأ أخيراً يتلقّى مساعدات أميركية واضحة وعلنية»، يحلم الأكراد أن تكون جادّة هذه المرّة، وليست مجرّد ورقة ضغط تفاوضية تنتهي بهم إلى مواجهات غير متكافئة، على غرار ما حدث سابقاً أكثر من مرّة، الأمر الذي ستوضح معالمه الخطوات الأميركية اللاحقة ومدى تَقبُّل أنقرة لها من جهة، وردّة فعل دمشق وموسكو اللتين تتابعان نشاطهما في نطاق «اللجنة الدستورية» وملفّ المصالحات الذي يتوسّع بشكل تدريجي، من جهة أخرى.