حضرت روسيا ــــ في الأشهر السابقة على العملية العسكرية في أوكرانيا ــــ في العديد من ملفّات دول البحر الأحمر، بمقاربات متفاوتة وازت انخراطاً مضطرباً للقوى الغربية في الإقليم نفسه. واتّضح ذلك من خلال سعي موسكو الحثيث، طوال العقد الفائت على الأقلّ، إلى إقامة قاعدة بحرية في إحدى دول البحر الأحمر الأفريقية (إريتريا، جيبوتي والصومال)، قبل إعلانها الذي سبق عزل الرئيس السوداني، عمر البشير، عن توصُّلها إلى اتفاق مع الخرطوم لإقامة قاعدة عسكرية في بورتسودان. وفيما تؤثّر الأزمة الروسية ــــ الأوكرانية الراهنة على مجمل المقاربة الروسية في البحر الأحمر وارتباطاتها بما يراه محلّلون إعادة صياغة نظام دولي جديد، فإن أزمة شبه جزيرة القرم (2014) لم تكن غائبة عن تداعيات هذه المقاربة. إذ سعت موسكو، قبل عقد تقريباً، للتوصُّل إلى اتفاق مع حكومة جيبوتي لإقامة قاعدة عسكرية تستخدمها في الأساس القوات الجوية الروسية، وشملت المحادثات التي استمرّت بين عامَي 2012 و2013، التفاوض حول مساحة الأراضي المُتوقَّع تخصيصها، ودرجة الخضوع لتعليمات السلطات الأميركية التي تدير المجال الجوي الجيبوتي، وحجم الاستثمارات الروسية المرتقبة في هذا البلد. لكن اندلاع الأزمة الأوكرانية أنهى تلك المفاوضات، ليقتصر الوجود الروسي في البحر الأحمر على التعاون مع السلطات المعنيّة والقوى الدولية في ملفّ وحيد: "مواجهة القرصنة" في البحر الأحمر.
روسيا والبوابة السودانية
جدّدت زيارة نائب رئيس "مجلس السيادة" الانتقالي، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لموسكو (23 شباط الماضي، والتي استغرقت ثمانية أيام كاملة)، الجدل حول مساعي الأخيرة لإقامة قاعدة عسكرية في السودان، على رغم إشارة محلّلين كثر إلى أن الزيارة التي كانت مقرَّرة منذ ما قبل اندلاع الحرب، استهدفت أساساً مسألتَي التجارة والاستثمار. وبغضّ النظر عن تفسيرات الزيارة والإشارة إلى أنها جاءت ضمن مساعي موسكو والخرطوم إلى الفكاك من "عزلة دبلوماسية غربية" (وإقليمية)، فإن البند المرجّح على أجندة حميدتي ظلّ مسألةَ ردّ "السيادي" على مسودة الاتفاق الذي صادق عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عام 2020 بخصوص "إقامة قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان"، لتكون الأولى من نوعها في أفريقيا منذ خروج الاتحاد السوفياتي الشهير من الصومال (تشرين الثاني 1977 عقب إلغاء مقديشو معاهدة الصداقة مع الأخير بعد نحو ثلاثة أعوام فقط من توقيعها).
إثر ذلك، بادرت وسائل إعلام روسية، مطلع آذار الجاري، إلى تأكيد موافقة السودان على الاتفاق مع روسيا، في ما بدا إعلاناً متعجّلاً لاعتبارات عدّة، منها تصريحات دقلو نفسه إزاء المسألة، وقوله إنها "تخصّ وزير الدفاع السوداني"، وإنه لا "يمكنه فهم المصلحة وراء إقامة مثل هذه القاعدة"، نظراً إلى امتلاك روسيا "قواعد" في دول مختلفة في أفريقيا؛ وما سبق تأكيده من قِبَل رئيس أركان الجيش السوداني، محمد عثمان الحسين (تشرين الثاني 2020)، من أنه ليس ثمة "اتفاق كامل مع روسيا حول إقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر، لكن تعاوننا العسكري قد تعمّق". يضاف إلى ما سبق، مواقف الأطراف العربية المعنيّة بالبحر الأحمر، والرافضة للفكرة وما تمثّله من تهديدات إضافية بعسكرة الإقليم، ونقل حدود القواعد العسكرية من جنوب البحر إلى نقطة منتصفه على الساحل الأفريقي وقبالة عدد من الموانئ السعودية مباشرة.
لا يبدو أنّ هناك حظوظاً لأيّ تقارب مصري ــ روسي بخصوص أمن البحر الأحمر وتشابكاته


السعودية و"الفرصة الروسية"
حاولت السعودية (والإمارات المعنيّة بشكل متزايد بـ"أمن" البحر الأحمر) إحداث نوع من التوازن في تعاملهما مع الأزمة الأوكرانية. فبعد تكهّنات بعدم تصويت الرياض في الأمم المتحدة لمصلحة قرار يدين "الغزو الروسي لأوكرانيا"، التزمت الأولى بالتصويت الإيجابي. في المقابل، كان لافتاً تأكيد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مطلع الشهر الجاري، التزام بلاده باتفاق "أوبك+" وحرصها على استقرار وتوازن أسواق النفط والحفاظ على مستويات الإنتاج السارية منذ أشهر. هذا الموقف قُرئ على أنه مؤشّر إلى تحوّل سياسي واقتصادي استراتيجي واسع النطاق نحو الصين وروسيا، وتفادٍ لتكرار سيناريو حرب أسعار النفط، واتّساق مع توقيع الرياض وموسكو، في عام 2017، مجموعة من صفقات الطاقة الثنائية بعيداً من "مجال التأثير الأميركي". وتوحي مساعي واشنطن إلى استمالة عدد من كبار مصدّري النفط في العالم "من خارج شبكة حلفائها"، وما تردَّد عن تجاهل الرياض وأبو ظبي تلقّي مكالمات هاتفية من الرئيس جو بايدن، بتوتّر نسبي في العلاقات مع الرياض. لكن تحرُّك أبو ظبي، عبر سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، لدعوة "أوبك+" إلى رفع إنتاجها، قاد على الفور إلى تراجع أسعار النفط بنسبة 11%. وهو ما يتيح توقُّع اكتفاء الرياض من "الفرصة الروسية" بالمكاسب الراهنة والمرتقبة من ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من عقد.

مصر وروسيا وأمن البحر الأحمر
لا يبدو أنّ هناك حظوظاً لأيّ تقارب مصري ــــ روسي بخصوص أمن البحر الأحمر وتشابكاته؛ إذ تتبنّى القاهرة موقفاً مبدئياً رافضاً لفكرة إقامة قواعد عسكرية على سواحل البحر الأحمر في السودان المجاور، لاعتبارات تخصّ أمنها القومي، كما اتّضح في حالتَي تركيا وروسيا أخيراً. ومثل هذه الخطوة الروسية ستقوّض، بشكل كبير، المقاربة المصرية للمرحلة الانتقالية في السودان، وتنتقص من مكتسبات القاهرة في تعزيز استقرار "مجلس السيادة" الانتقالي وتخفيف الضغوط الإقليمية عليه. وعلى رغم الخطاب الرسمي المصري، الذي يؤكد تفهُّم العلاقات التاريخية مع روسيا وأهميتها وآفاق التعاون بين البلدين في أكثر من ملفّ عوضاً عن العلاقات الاقتصادية، فإن القاهرة لم تنسَ موقف موسكو من مسألة "سدّ النهضة" في مجلس الأمن (منتصف 2021)، وبيان مندوبها فاسيلي نيبينزيا، الذي تفهَّم تماماً الرؤية الإثيوبية على حساب المخاوف المصرية. في المقابل ــــ في هذا الملفّ الحيوي ــــ، وجدت القاهرة تفهُّماً أوروبياً طارئاً لمخاوفها، مع تعهُّد الاتحاد الأوروبي، في خضمّ الأزمة الروسية ــــ الأوكرانية، بتدخل أكبر فعالية في ملفّ "النهضة".

روسيا وإريتريا
كانت إريتريا من بين أربع دول في العالم (إضافة إلى روسيا) عارضت مشروع قرار الأمم المتحدة المطالِب بانسحاب روسيا غير المشروط من أوكرانيا. وجاءت إريتريا، المقرّ السابق لواحدة من أهمّ قواعد الاتصالات العالمية خلال الحرب الباردة قبل إطلاق الأقمار الاصطناعية: قاعدة كانيو الأميركية، ضمن لائحة المواقع التي سعت روسيا إلى إقامة قواعد بحرية فيها في البحر الأحمر. وتُعزّز الرابطة الروسية ــــ الإثيوبية احتمالات تصاعد الوجود الروسي في إريتريا عبر حزمة تعاون عسكري وأمني (مع ملاحظة أن روسيا أصبحت المصدّر الأوّل للسلاح في أفريقيا جنوب الصحراء)، ربّما يمتدّ لتعزيز مشروع أديس أبابا لتجديد "قواتها البحرية" بعد انسحاب فرنسا من الملف عقب قرار تعليق التعاون العسكري مع أديس أبابا في آب 2021.