لندن | تَغيّر الكثير في الأسبوعين الماضيين. اهتزّ أمن أوروبا، وبدأت تتشكّل الخطوط العريضة للنظام العالمي الجديد انطلاقاً من أوكرانيا، بينما أخذت عقوبات الغرب على روسيا تطلق أسوأ موجة تضخّم عالمي منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. لكن هذه الأزمة الشديدة التعقيد والمتعدّدة المستويات بدت في لندن كأنها طوق نجاة لشخص رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي كان للتوّ في أضعف لحظاته السياسية على الإطلاق، ويصارع للاحتفاظ بمنصبه على رأس السلطة التنفيذية في المملكة المتحدة بعد سلسلة من فضائح متتابعة دمّرت سمعته المهنية، وكادت تفقده حتى دعم حزبه ــــ المحافظين ــــ الحاكم. أمّا الآن، فيقضي الرئيس أوقاته في التواصل ــــ بشكل شبه يومي ــــ مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وإجراء اللقاءات والزيارات بغرض توحيد جبهة الغرب وراء الولايات المتحدّة في مواجهة الغضب الروسي ــــ أو «حرب بوتين» كما يصرّ على تسميتها ــــ، وفي أوقات فراغه يدبّج المقالات للصحف الأميركية، وآخرها خطّة لمواجهة روسيا من ستّ نقاط نشرتها «نيويورك تايمز»، أول من أمس. لقد غيّرت الأزمة الأوكرانية من المناخ السياسي المحيط بالحكومة، وتوحّدت مختلف القوى والتيارات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وراء (الزعيم) البريطاني، لتتوقّف الدّعوات إلى تنحّيه عن منصبه، ويسحب معارضوه داخل الحزب الحاكم طلباتهم لطرح الثقة به، فيما بلغت الأمور بالمعارضة العمّالية حدّ اعتباره مقصّراً بحق «القضية الأوكرانية»، التشديد على أنه ينبغي أن يندفع أكثر في مواجهة «العدوان الروسي على القيم الأوروبية». أحد أشدّ منتقدي رئيس الوزراء، الوزير السابق في حزب المحافظين روري ستيوارت، قال: «أعتقد أن جونسون إنسان فظيع. وأنه رئيس وزراء فظيع، لكنني أيضاً أرى أنه على ما يرام بشأن الأزمة الأوكرانية». ونقلت الصحف عن وزير خارجية الظلّ، ديفيد لامي ــــ المكلّف بملف الخارجية في المعارضة ــــ، قوله «إن حزب العمال يدعم تماماً انضمام المملكة المتحدة إلى الجهود الدولية لمساعدة أوكرانيا»، ودعوته الحكومة إلى التحرّك بشكل أسرع في فرض عقوبات على من سمّاهم «الأوليغارشية والسياسيين المرتبطين بالكرملين». أمّا زعيم «حزب العمال»، السير كير ستارمر، فيريد من الحكومة تشريع «الدعاوى القضائية الاستراتيجية ضد المشاركة العامة»، وبالتالي فرض تحدّيات قانونية تهدف إلى استنزاف موارد المعارضين أو تخويفهم من استخدام المحاكم البريطانية، والتي قال السير كير إنه يخشى من أن تُستخدم لكسب الوقت لنقل أموال الأوليغارشية الروسية «التي تموّل غزو بوتين القاتل لأوكرانيا». وكانت تشريعات مماثلة قد استخدمت في السابق لفرض الرقابة على الصحافيين والنشطاء السياسيين وتهديدهم.
لم تخفِ عدّة صحف بريطانية الأنباء عن وصول عدد من المتطوّعين إلى الداخل الأوكراني عبر بولندا


جونسون المنتعش بهذا الالتفاف من حوله، نشر في «نيويورك تايمز»، الأحد الماضي، خطّة من ستّ نقاط للتعامل مع الأزمة الأوكرانية، داعياً إلى أن تتلاقى الجهود الدولية لإفشال محاولة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، «إعادة كتابة قواعد النظام الدولي بمحض القوّة العسكرية». وتغطي الخطّة محاور لتوجيه عمل المجتمع الدولي نحو مزيد من الدعم الإنساني والعسكري للنظام الأوكراني، وتصعيد الضغط الاقتصادي على روسيا، وبذل جهد متجدّد من أجل حملة سريعة لتعزيز الأمن في جميع أنحاء أوروبا بالتضامن بين بلدان حلف «الناتو»، ومقاومة ما سمّاه «التطبيع المتزايد» مع الأفعال العسكرية الروسية، بداية من القرم وانتهاءً بـ»غزو» أوكرانيا. وعلى رغم أن المقال بدا شكلاً كأنّه يضع أسساً لدور قيادي لبريطانيا في بلورة خطّة المواجهة مع الاندفاعة الروسية، إلّا أن قراءة معمّقة للنص تكشف عن حالة العري الكامل التي انتهت إليها الإمبراطورية المتقاعدة. إذ يحدّد مبكراً أن «هذا ليس صراعاً يتعلّق بحلف شمال الأطلسي ولن يصبح كذلك. ولم يرسل أيّ من الحلفاء قوات مقاتلة إلى أوكرانيا، وليس لدينا أيّ عداء تجاه الشعب الروسي، وليست لدينا رغبة في المساس بأمّة عظيمة وقوة عالمية وعضو مؤسس للأمم المتحدة». كما يتجنّب على الإطلاق ذكر الصين في كلّ المقال، مع معرفته بأن ما يعرقل الجهود الدولية لحصار موسكو ليس إلّا رفض الصين الصريح الانخراط فيها. ثمّ يقدّم تنازلاً واضحاً لطلبات الكرملين من خلال القول إن «أوكرانيا في الحقيقة لم يكن لديها أيّ احتمال جدّي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في المستقبل القريب، وكنّا على استعداد للردّ على المخاوف الأمنية الروسية المعلنة بهذا الشأن من خلال التفاوض».
وأشار الرئيس إلى أن «المملكة المتحدة من بين حفنة من الدول الأوروبية التي أرسلت مساعدات (دفاعية) إلى أوكرانيا. والآن، هناك أكثر من 25 بلداً تشترك في هذا الجهد، كما أن الإنفاق الدفاعي لدول الحلف آخذ في الارتفاع»، لكنه استدرك بقوله إن «الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى يترجم ذلك الإنفاق إلى قدرة فعليّة». وهو بذلك يقرّ بعجز الحلف عن منع سقوط النظام الأوكرانيّ، ويريد من الحلفاء الأوروبيين العمل معاً لجعل تكلفة الانتصار الروسي باهظة. لكن الجليّ أن ما تبقّى من أوراق بيد «الناتو» يظلّ محدوداً بسقف لا يمكن لأحد أن يغامر بتجاوزه، وهو العمل العسكري المباشر. وبغير تشجيع الأوكرانيين على ترك بلادهم لخلق أزمة لاجئين تُستخدم كورقة ضغط (إنساني) ضدّ روسيا، وتركيز العقوبات على الأفراد الأثرياء من النخبة الروسية (وهؤلاء لهم بالفعل ثروات هائلة مستثمرة في القطاع المالي والعقاري البريطاني لتبييضها كما هي الحال بأموال معظم أوليغارشيّات العالم الثالث) ــــ بدلاً من التورّط في التوقّف عن استيراد موارد الطاقة الروسية التي تدفئ شرايين أوروبا وتدير ماكيناتها ــــ، فإن غاية ما يمكن البريطانيون فعله هي استعادة رصيدهم المتراكم من عتاة اليمين الفاشيست المتطرّفين، والمرتزقة المتقاعدين من خدمة القتل باسم «جيش جلالة الملكة» في العراق وأفغانستان واليمن وليبيا وسوريا، وتصديرهم إلى أوكرانيا بصفة متطوّعين بغرض تنفيذ عمليات تخريبية وراء الخطوط الروسية في أوكرانيا. وبالفعل، لم تخفِ عدّة صحف بريطانية الأنباء عن وصول عدد من هؤلاء إلى الداخل الأوكراني عبر بولندا، وذكرت أنهم مدجّجون بأسلحة متطورة، وحصلوا على تسهيلات من الحكومات الأوروبية للانتقال إلى مواقع القتال ضمن تشكيلات نازية يتمّ تجميعها من مختلف أنحاء العالم.
على أساس هذا البرنامج المتهالك، التقى جونسون، أمس الاثنين، زعيمَي كندا وهولندا في لندن للبحث في إنشاء أوسع تحالف ممكن «لفضح الاعتداءات التي تحدث في أوكرانيا». واليوم الثلاثاء، سيستضيف قادة بولندا وسلوفاكيا والمجر وجمهورية التشيك، التي يتوقّع منها أن تدخل خطّ المواجهة مع روسيا من خلال أزمة اللاجئين، متهرّباً بالطبع من مواجهة شعبه بحقيقة «الديستوبيا» الاقتصادية التي بدأت تلفّ عنق المملكة، نتيجة سياسات حكومته الفاشلة.