في مواجهة الهجوم الروسي الوقِح على أوكرانيا، حاولت إدارة جو بايدن الردّ، عبر الاستخدام العدواني للمعلومات الاستخبارية. لكن احذروا: يمكن لطرفين أن يلعبا هذه اللعبة، ويُظهر التاريخ أن الروس هم أسيادٌ لا يرحمون، في العمليات السرّية في هذه المنطقة.وقعت حروب التجسُّس في أوكرانيا، حتى الآن، في الغالب، في ما يحبّ الروس تسميَته «مساحة المعلومات»، وكان أداء وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات الاستخبارات الأميركية الأخرى مذهلاً. لقد اخترقوا جدار السرية الروسي لفضح تخطيطها العسكري، وفضح مؤامراتها، وحتى خططها لعمليات القتل والاختطاف الموجّهة للقادة الأوكرانيين.
(...) ولكن روسيا تلعب لعبة طويلة ومراوِغة في الاستخبارات، ولا يوجد مثال أفضل على ذلك من أوكرانيا خلال السنوات الأولى للحرب الباردة. كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، حينها، تُربِّت على نفسها، بسبب رضاها عن العمليات العدوانية هناك، في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، لكن اتّضح أن موسكو قد اخترقتها جميعاً وتلاعبت بها.
في ذلك الوقت، تمّ إغراء «الثوار» الأوكرانيين بوعود أميركية غير واقعية. «المقاومة الأوكرانية ليس لديها أمل في الانتصار، ما لم تكن أميركا مستعدّة لخوض الحرب نيابة عنها. ونظراً إلى أن أميركا لم تكن مستعدة لخوض الحرب، فقد كانت في الواقع تشجِّع الأوكرانيين على الذهاب إلى حتفهم»، يقول جون رانيلا في كتابه «الوكالة: صعود وانحدار وكالة الاستخبارات المركزية».
ما يجعل تاريخ التجسُّس هذا وثيق الصلة الآن، هو أن دعم التمرُّد الأوكراني يشغل حيّزاً قليلاً من النقاش ضمن خطّة إدارة بايدن لمحاربة الغزو الروسي الشامل. الهدف هو جعل أوكرانيا «قنفذاً» غير قابل للهضم للمحتلّين الروس. يبدو هذا جيّداً، نظراً للصعوبات الروسية والأميركية في محاربة التمرّد في أفغانستان والعراق. لكن هذه الاستراتيجية فيها بعض نقاط الضعف المهمّة، التي تحتاج إلى تحقّق صريح، قبل فوات الأوان.
لنبدأ بالمشكلة الملحّة بشأن كيفية قيام الولايات المتحدة وحلفائها بحماية المتمرّدين الأوكرانيين. حذّرت إدارة بايدن الأمم المتحدة من أنه «لدينا معلومات موثوقة تشير إلى أن القوات الروسية تعمل على وضع قوائم بأسماء الأوكرانيين الذين تمّ تحديدهم لقتلهم، أو إرسالهم إلى المعسكرات، بعد الاحتلال العسكري». كما حذّرت الإدارة الأمم المتحدة من أن الروس «سيستخدمون على الأرجح إجراءات مميتة لتفريق الاحتجاجات السلمية».
أُعذر من أنذر. لذلك، نأمل في أن تتواصل وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات استخبارات صديقة أخرى، مع الأوكرانيين الذين سيكونون أهدافاً محتملة لـ»قائمة القتل» هذه، وتساعد في حمايتهم. لكن ما وراء العنف المروّع لغزوٍ شامل، ستكون هناك حربٌ قذرة في الظلّ.
أكبر مشكلة لأوكرانيا وحلفائها، هي أن روسيا تعرف جيداً ساحة المعركة هذه - ولا شكّ في أنها تجنّد شبكة من العملاء الأوكرانيين المزدوجين. يمكن لهؤلاء العملاء أن يزرعوا الخراب في «حركة المقاومة»، من خلال الكشف عن قادتها وبيوتهم الآمنة، واتصالاتهم وخططهم للهجوم. وقد يزداد الأمر سوءاً: فقد كانت إحدى العلامات المميّزة للاستخبارات الروسية، على مدى قرن من الزمان، قدرتها على التلاعب بجماعات المقاومة في أوكرانيا، وأماكن أخرى، بحيث كانت في الواقع تحت سيطرة الكرملين.
بالاعتماد على التاريخ الداخلي لوكالة الاستخبارات المركزية، يصف إيفان توماس في كتابه «أفضل الرجال» كيف قامت وكالة الاستخبارات المركزية بالعمليات المظلّية في جبال الكاربات في أوكرانيا، ابتداءً من عام 1949. «كانت هذه مهمّات ميؤوساً منها»، كتب توماس، مضيفاً أن «أجهزة الأمن عالية الكفاءة في الكرملين، اعتقلت المتسلّلين في الوقت التي كانت تسحق فيه حركات المقاومة». كذلك، نَقل عن ضابط في وكالة الاستخبارات المركزية مشارك في العملية، وصفها بأنّها كانت «خطأً فادحاً».
يعتمد تيم وينر، في كتابه عن تاريخ الوكالة لعام 2007، «إرث الرماد»، على حسابات وكالة الاستخبارات المركزية لشرح العواقب المروّعة: «لقد أرسلت وكالة الاستخبارات المركزية عشرات العملاء الأوكرانيين عن طريق الجوّ والبرّ. تمّ القبض على الجميع تقريباً. استخدم ضباط الاستخبارات السوفياتية السجناء لتغذية معلومات مضلِّلة، مثل «كلّ شيء على ما يرام، أرسلوا المزيد من الأسلحة، والمزيد من المال، والمزيد من الرجال». ثمّ قتلوهم.
كان سبب ضعف هذه العمليات البريطانية والأميركية، هو أن الروس «اخترقوا» حركتَي مقاومة أوكرانيّتَين مفترضتَين، وهما «منظمة القوميين الأوكرانيين» و»تحالف العمّال الوطني»، وفقاً لكريستوفر أندرو وأوليغ غورديفسكي، في كتابهما الصادر عام 1990، «كي جي بي: القصّة من الداخل». بعد سحق الحركات، تعقَّب العملاء السوفيات زعيمَين، هما ليف ريبيت، وستيبان بانديرا من «منظمة القوميين الأوكرانيين»، وقتلوهما بالغاز السام، في عامي 1957 و1959 على التوالي.
ربما سيتمكّن الأوكرانيون من قيادة حركة مقاومة قوية، لكن التاريخ يعلّمنا أن هذا القنفذ قد يحمل طفيليات داخلية، وأنه ستتمّ ملاحقته من قِبَل ثعلب حادّ الأسنان.
(ديفيد إغناتيوس - «ذي واشنطن بوست»)