تغلّبت الاعتبارات التاريخية والوطنية على ما عداها، في قرار تركيا إغلاق مضيقَي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية والأوكرانية؛ ذلك أن الامتناع عن تطبيق الاتفاقية، وتحديداً مادّتها التاسعة عشرة، سوف يرتدّ سلباً على تركيا، ويفتح الباب أمام مطالبات دول أخرى، على رأسها الولايات المتحدة، بتعديل الاتفاقية ما دام هناك من لا يطبّقها. لذا، لا يُتوقّع أن تَعتبر روسيا هذه الخطوة عملاً عدائياً ضدّها، في ظلّ عدم حاجتها حالياً إلى سفنها الواقعة في البحر المتوسّط، وفي ظلّ العقوبات الغربية المفروضة عليها، والتي ستجد معها موسكو أن من مصلحتها المؤكّدة استمرار العلاقات الاقتصادية مع دولة في «حلف شمال الأطلسي» وقريبة منها، مثل تركيا. في المقابل، لا تزال هذه الأخيرة ثابتة على موقفها الوسطي ما بين الطرفَين الروسي والأوكراني، إذ إنه ليس لديها، كما قال وزير خارجيتها، مولود تشاويش أوغلو، «ترف الانحياز» إلى طرف ضدّ آخر. وفيما امتنعت عن التصويت في المجلس الأوروبي ضدّ إخراج روسيا من عضويّته، فقد حاول الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التملّق للغرب، بالقول إن بلاده لا تعارض انضمام أوكرانيا إلى «حلف الناتو»، لأن هذا برأيه «يخدم السلام العالمي»، كما حيّا «المقاومة الوطنية الأوكرانية»، مقدّراً «الدور المقاوِم للرئيس فولوديمير زيلينسكي».لكن محاولة تركيا إمساك العصا من المنتصف، لا يبدو أنها تفلح في إبقائها بعيدة من عين العاصفة الاقتصادية الناجمة عن الأزمة الأوكرانية. ومع أن العقوبات الاقتصادية الغربية تهدف إلى جعل الاقتصاد الروسي ينهار، إلّا أنها تطاول بتأثيراتها الاقتصاد التركي من جوانب كثيرة. فمن أصل الصادرات الروسية البالغة 480 مليار دولار، هناك 27 مليار دولار إلى تركيا، معظمها شراء للطاقة من غاز ونفط. كما أن تركيا مع بيلاروسيا، تعدّان الدولتَين رقم أربعة في لائحة الصادرات الروسية، بعد الصين وهولندا وألمانيا. وتركيا هي الدولة السادسة المصدّرة إلى روسيا، بمبلغ 5.5 مليار دولار من أصل الواردات الروسية البالغة 293 مليار دولار، بعد كلّ من الصين وألمانيا والولايات المتحدة وبيلاروسيا وإيطاليا. كذلك، تبلغ صادرات تركيا إلى أوكرانيا، حوالى 3 مليارات دولار، ووارداتها منها قرابة 4 مليارات دولار. وبذلك، يصل حجم التجارة الخارجية التركية مع كلّ من روسيا وأوكرانيا، إلى نحو أربعين مليار دولار، من أصل الحجم الإجمالي للتجارة الخارجية التركية، البالغ حوالى 500 مليار دولار، أي حوالى ثمانية في المئة. وعلى صعيد الاستثمارات، فإن قطاع البناء التركي ينشط بقوة داخل روسيا، حيث بلغ 11 مليار دولار من أصل حجمه العام في الخارج، البالغ 30 مليار دولار، أي أكثر من ثلثَيه. كما أن للشركات التركية في مجال الألبسة الجاهزة، 267 محلّاً في أوكرانيا و655 محلّاً في روسيا.
وفي هذا السياق، ترى كبيرة الاقتصاديين في جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك، غيزيم أوزتوك ألتينصاتش، أن التأثّر الاقتصادي التركي من الأزمة الأوكرانية، هو في مجال النفط والزراعة والسياحة، حيث ستتحمّل تركيا من جراء الأزمة أعباء إضافية لا تقلّ عن 30 - 35 مليار دولار. أمّا علي رضا غونغين، الباحث التركي في الاقتصاد، فيَعتبر أن الحديث عن أن إخراج روسيا من نظام «سويفت» سيؤدّي إلى عزلها نهائياً، ليس دقيقاً، مشيراً إلى أن العقوبات الغربية ستضرب أيضاً الأسعار في الغرب، وتؤدّي إلى ارتفاع التضخّم. وحتى لو بذلت السعودية، وغيرها من دول «أوبك»، أقصى الجهود لتلافي تداعيات ارتفاع الأسعار، فلن تنجح في تعويض الحصّة الروسية. ويلفت غونغين إلى أن أوروبا تستورد 90 في المئة من حاجتها إلى الطاقة من الخارج، مضيفاً أن «أسعار الغاز ارتفعت من سنة حتى الآن سبع مرّات»، مستنتجاً بأن «الأزمة ستتعمّق أكثر مع الحرب في أوكرانيا». إلّا أنه ينبّه إلى أن «أوروبا وروسيا مترابطتان في الطاقة، بصورة غريبة، حيث النفط عصب الصادرات الروسية، إذ بلغ عام 2021 حوالى 110 مليارات دولار. وفي مجال الغاز الطبيعي، بلغت صادرات روسيا 56 مليار دولار. وتستورد أوروبا من روسيا 25 في المئة من حاجتها للنفط، و39 في المئة من الغاز الطبيعي، و 42 في المئة من الفحم. ويشكّل مجموع صادرات روسيا من الغاز والنفط حوالي 40 في المئة من واردات الخزينة الروسية».
يبلغ حجم التجارة الخارجية التركية مع كلّ من روسيا وأوكرانيا حوالى أربعين مليار دولار


وفي الحسابات التركية، فإنّ كلّ زيادة عشرة دولارات على سعر برميل النفط، تعني زيادة في الإنفاق ما بين خمسة إلى ستة مليارات دولارات. ومن هذا المنطلق، يرى مراد كوبيلاي، الخبير المالي، أنه «على رغم أن الاقتصاد الروسي ليس من بين الاقتصادات الكبرى في العالم، لكن مكانته على صعيد النفط والغاز مؤثّرة. لذا، فإن العقوبات على روسيا سوف تؤثّر في النمو العالمي الذي سيتباطأ». ويضيف أن «تركيا ستتأثر كثيراً، على صعيد الصادرات والزراعة والسياحة»، محذراً من أن «التأثّر سيكبر في حال استمرّت الحرب فترة أطول، أو اشتدّت أكثر». ويَعتبر كوبيلاي أن «البنك المركزي التركي لن يحقّق أهدافه في لجم التضخّم، بل إن الأخير سيزيد بمعدّل من خمس إلى عشر نقاط عمّا هو مخطّط له». كذلك، يلفت إلى أن «الخسائر في القطاع السياحي التركي كبيرة»، موضحاً أنه «في العام الماضي، بلغ عدد السائحين الروس 4.7 مليون، وعدد السائحين الأوكرانيين حوالى المليون. وكان من المتوقّع مضاعفة العدد بعد تراجع جائحة كورونا. لكن عدم تحقّق ذلك واستمرار الأزمة، سيحرم الخزينة التركية حوالى عشرة مليارات دولار».
من جهته، يشير محمد تشاغداش ايشيم، عضو مجموعة «المحلّلين الماليين وأبحاث التضخّم»، إلى أن «كلّ دولار زيادة على أسعار برميل النفط، يعني زيادة 0.04 في نسبة التضخُّم، التي بلغت رسمياً 48 في المئة، فيما هي أكثر من ذلك بكثير». ويرى ايشيم أن «العقوبات الغربية ستترك أثراً كبيراً على تجارة الحبوب»، مبيّناً أن «العالم ينتج 770 مليون طن من القمح، عشرون في المئة منها من روسيا. أمّا حجم تجارة القمح بالنسبة لتركيا، فهو 3.3 في المئة». وفي هذا الإطار، يقول إن «تركيا تنتج سنوياً 20 مليون طن من القمح يكفي لحاجتها الداخلية»، مضيفاً أنها «مع ذلك، تستورد 9 ملايين طن من الخارج، منها 65 في المئة من روسيا و15 في المئة من أوكرانيا، ذلك أن واردات تركيا من القمح هي لتحويلها إلى طحين وتصديرها من جديد. وهذا الأمر سوف يتأثّر حتماً بالعقوبات الغربية». أيضاً، فإن 30 في المئة من الشعير ودوار الشمس والذرة ينتَج في روسيا وأوكرانيا، اللتين تستورد منهما تركيا سبعين في المئة من احتياجاتها من هذه المواد، علماً أن سعر طن زيت دوار الشمس ارتفع من 1400 إلى 1500 دولار، فيما قد يصل إلى 1800 دولار. وفضلاً عن ما تَقدّم، يعتقد ايشيم أن «أزمة كبرى ستنشأ أمام تركيا من تراجع مبيعات الطماطم والرمان والبرتقال والحامض إلى روسيا وأوكرانيا».
كما أن القطاع السياحة سيُعاني كثيراً، إذ وفقاً لمؤسّسة الإحصاء التركية، فإن عائدات تركيا العام الماضي من السياحة بلغت 25 مليار دولار، فيما وصل عدد السائحين إلى حوالى 30 مليون سائح، منهم 5 ملايين من روسيا، بنسبة 20 في المئة، ومليونان من أوكرانيا، بنسبة 8 في المئة. ومن هذا المنطلق، لم تغلق تركيا مجالها الجوّي أمام روسيا، أملاً في ألّا يتأثّر القطاع السياحي. ويَتوقّع «اتحاد وكالات السياحة» في تركيا أن يبلغ عدد السائحين، عام 2022، حوالى 45 مليون سائح، وبدخل 35 مليار دولار. لكن الحجوزات، حتى الآن، بالنسبة للروس والأوكرانيين، تراجعت بنسبة 70 في المئة، وهو ما يعني أن هذا القطاع قد يتكبّد خسارة تصل إلى 6 مليارات دولارات. وبالنسبة للدين الخارجي، فيبلغ 453 مليار دولار، منها 124 ملياراً ديناً على المدى القصير. ومع تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، بسبب انعكاسات الأزمة في أوكرانيا، فإن حجم الدين الخارجي سوف يزداد حتماً.
ومن بين الآثار المباشرة والسريعة أيضاً على الوضع المعيشي في تركيا، الزيادات اليومية على أسعار البنزين والغاز والكهرباء، والتي أثارت استياء كبيراً، دفع «حزب العدالة والتنمية» إلى التنصُّل من دوره فيها عبر ردِّها إلى الأزمة العالمية، كما قال النائب ماهر أونال. وردّ المتحدث باسم «حزب الشعب الجمهوري» المعارِض، فائق أوزتراك، على أونال، قائلاً: «مَن الذي رفع في ليلة واحدة أسعار الكهرباء بنسبة 127 في المئة؟ هل هي ملكة بريطانيا أم أنتم؟ هل هو الرئيس جون كينيدي أم أنتم؟ هل هو بيليه الملك غير المتوّج أم أنتم؟ هل هي بريجيت باردو أم أنتم؟». وعلى الرغم من تخفيض ضريبة القيمة المضافة على المواد الغذائية والخضار والفاكهة، من 8 إلى واحد في المئة، إلّا أن الأسعار لم تتراجع، بذريعة أن مكوّنات السعر، مثل الأسمدة والمازوت، تتضمّن ما يُعرف ارتفاعاً، وليس انخفاضاً في الأسعار.