بدا واضحاً خلال الأيام الأخيرة، وممّا ظهر من أرقام، أن روسيا كانت تتحضّر منذ سنين على الأقل، لليوم الذي ستضطّر فيه لرسم خطوط حمراء جديدة، تتعلّق بعلاقتها مع الغرب. ومنذ عام 2014، بدأت تظهر المؤشّرات التي تدلّ على أنّ العدّ العكسي لفرض قواعد لعبة جديدة بين موسكو وواشنطن قد بدأ. ومنذ ذلك الوقت، عمدت موسكو إلى الاستفادة من التجربة التي مرّت فيها الدول التي رفضت الخضوع للهيمنة الأميركية، وعلى رأسها إيران التي عجزت عن إخضاعها أقصى العقوبات ومحاولات العزل الأميركية والغربية. عموماً، تدرك موسكو أنّ السلاح الأقوى بيَد الولايات المتحدة الأميركية والغرب، هو سلاح العقوبات. ولكي تستطيع مواجهته، عليها محاولة التقليل من آثاره على الاقتصاد الروسي إلى أقصى حدّ ممكن. وفي هذا الإطار، يُظهر تقرير أعدّه «المركز الاستشاري للدارسات والتوثيق»، أنّ احتياطي العملات الأجنبية لدى روسيا، بلغ في شهر شباط من العام الحالي: 630.2$ مليار، بينما كان في العام 2014: 386.2$ مليار، ممّا يعني أنّ روسيا عمدت إلى زيادة احتياطها بنسبة 63% خلال الأعوام الثمانية الماضية. اليوم، تملك روسيا ثالث أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، ومع إضافة احتياطات النقد الأجنبي الروسية، إلى تلك الصينية، يُصبح مجمل حصّتهما 38.3% من مجمل احتياطيات النقد الأجنبي في العالم، حتى كانون الثاني عام 2022. 
في تقرير «المركز الاستشاري»، يتبيّن أنّ روسيا عمدت إلى تخفيض حصّة الدولار من هذا الاحتياط، بحيث تتوزّع الاحتياطيات الأجنبية الروسية اليوم على خمس عملات أساسية: اليورو (32.3%)، الذهب (21.7%)، اليوان الصيني (13.1%)، والاسترليني (6.5%). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطة مهمّة، وهي أن روسيا تتّبع استراتيجية منذ عام 2014، تهدف إلى تخفيض اعتمادها على الدولار واستبداله بعملات أخرى، فبين عامي 2020 و2021 مثلاً، انخفضت نسبة الدولار من الاحتياطيات الأجنبية الروسية، من 22.2% إلى 16.4%. كذلك، أعلنت وزارة المالية الروسية، في شهر تموز الماضي، خفض حصّة الدولار في «صندوق الثروة الوطني» للبلاد إلى «الصفر». هذا التراجع الملحوظ في حصة الدولار من الاحتياطي، هو نتيجة القرارات المختلفة التي اتّخذتها موسكو للتخلّص من الدولار، تحسّباً للعقوبات التي قد تُفرض عليها في أيّ مواجهة مع واشنطن. وبينما يُنظر في روسيا إلى «الاحتكار الفعلي» للدولار، الذي يهيمن على الموارد المالية العالمية من قِبل الولايات المتحدة، على أنّها أدوات لـ«احتوائها»، فقد نصّت «وثيقة الأمن القومي»، التي صدرت في تموز من العام الماضي، على أنّ تقليص الاعتماد على الدولار في الأنشطة الاقتصادية الخارجية، يمثّل أحد أساليب ضمان «الأمن الاقتصادي» للدولة الروسية.
تعمل روسيا منذ عام 2014 على أقلّ تقدير على زيادة احتياطيّاتها من العملات الأجنبية وخصوصاً الذهب


في موازاة ذلك، يذكر التقرير أنّ 21.7% من الاحتياطيات، موجودة داخل روسيا على هيئة ذهب. مع العلم أنّ روسيا هي ثاني أكبر منتج للذهب في العالم، بحيث أنتجت، في عام 2020، 331.1 طن، وبلغت حصّتها من الذهب في العالم 23.3% حينها، و13.18% في الصين، و10% في اليابان، و24.7% في دول الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا والنمسا)، و13.9% في أميركا وكندا وبريطانيا، و5% في المؤسّسات الدولية مثل «صندوق النقد الدولي». وعليه، رغم العقوبات الغربية التي استهدفت أصول المصرف المركزي الروسي، تبقى نسبة 34.88% من مجموع الاحتياطيات، أي ما يعادل 220$ مليار تقريباً، موجودة بين الصين وروسيا. أما الباقي، والذي تبلغ نسبته 55.12%، فهو فعلياً في المؤسّسات والمصارف الغربية التي، إما جمّدت حسابات المصرف المركزي الروسي عندها مثلما فعلت فرنسا وأميركا واليابان، أو تناقش قرار تجميد هذه الأصول حالياً مثلما يحدث في ألمانيا.
وبالنظر إلى الأرقام الواردة في التقرير، يمكن التوصّل إلى ثلاثة استنتاجات رئيسية: أولاً، روسيا منذ عام 2014، على أقلّ تقدير، تعمل على زيادة احتياطيّاتها من العملات الأجنبية، وخصوصاً الذهب، من أجل أن تستفيد منها في أي مواجهة مقبلة مع الغرب. ثانياً، من دون دول الاتحاد الأوروبي، لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية التأثير على احتياطي روسيا من العملات الأجنبية. فنسبة الاحتياطي الموجود في الدول الأوروبية يبلغ 31.5% من إجمالي الاحتياطي الروسي. ثالثاً، تعدّ الصين أكثر من حاجة بالنسبة لروسيا في المواجهة الدائرة حالياً بين هذه الأخيرة وبين الغرب، حيث يوجد في الصين 13.8% من الاحتياطي الروسي. كما أنّ الصين تشكّل سوقاً بديلة محتملة للغاز الروسي. ففي الوقت الذي تبحث فيه أوروبا عن بديل للغاز الروسي يساعدها في تنويع مصادر الطاقة التي تستورد منها، من أجل تخفيف اعتمادها على روسيا، أعلنت شركة «غازبروم» الروسية، في بيان، أنّها «وقّعت عقداً لتصميم خط أنابيب سويوز فوستوك عبر منغوليا باتجاه الصين». ومن المفترض أنّ هذا الخطّ سينقل ما يصل إلى 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً إلى الصين، أي الكمية ذاتها التي من المفترض أن تصل إلى أوروبا، عبر خط أنابيب «نورد ستريم 2»، الذي أوقفت ألمانيا إجراءات اعتماده رداً على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
في الخلاصة، وانطلاقاً ممّا تظهره الأرقام، ومجموعة مؤشّرات وعوامل أخرى، يمكن القول إنّ مستقبل الصراع الدائر بين روسيا وأميركا، يعتمد بشكل كبير على قدرة طرفيه على توحيد حلفائهم في «جبهة» واحدة، لا سيما الصين بالنسبة لموسكو، والأوروبيين بالنسية لواشنطن.