«روسيا هي لغز، ملفوف في لغز، داخل لغز، ولكن ربما يوجد لها مفتاح وهو المصلحة الوطنية الروسية». في عام 1939، وجد ذلك التوصيف حيّزاً في دفتر ملاحظات أمين البحرية البريطانية، حديث التنصيب آنذاك، وينستون تشرشل. بعد عام واحد سيتولى تشرشل رئاسة الوزراء، ليجد نفسه وجهاً لوجه مع اللغز الروسي ـــ السوفياتي، لكن في ميدان الحرب العالمية الثانية. وبعد سبع سنوات استخدم تشرشل هذا المفتاح لفتح نسخته من الإجابة على لغز الروس: «لا يوجد شيء يعجبون به مثل القوة، ولا يوجد شيء أقل احتراماً كالضعف، وبخاصة الضعف العسكري». ليس من قبيل المصادفة، إذاً، أن يكون «الدب» رمزاً لدولة بهذا الحجم الهائل. أحياناً، يجلس في سبات وأحياناً يهدر، مهيب ولكنه شرس. «الدب» (Bear) في الأصل كلمة روسية، إلّا أن الروس أنفسهم يسمّونه «medved»، أي «الذي يحب العسل»، ربما خوفاً من استحضار الجانب المظلم من ذلك الحيوان.في 24 شباط الحالي، بدأت فعلياً بداية العصر الرابع لسياسة روسيا الخارجية، حقبة «التدمير البنّاء»، بحسب دراسة بعنوان «عقيدة بوتين: المواجهة الروسية مع الناتو» لسيرغي كاراغانوف، الرئيس الفخري لـ«المجلس الروسي للسياسة الخارجية والدفاعية». عملياً، بدأ العصر الأوّل في أواخر الثمانينيات، عندما فقدت الأمّة السوفياتية آنذاك إرادة القتال، تحت بريق دعاية الديموقراطية الغربية. انتهى كل هذا في عام 1999، بعد الموجات الأولى من توسّع «الناتو»، راقب الروس بقلق مطاردة الحلف له، وضمّه للدول التي وعد روسيا بعدم ضمّها؛ التشيك والمجر وبولندا في عام 1999، بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا في عام 2004، وألبانيا في عام 2009. اعتبر الروس ذلك «طعنة في الظهر، تحديداً عندما مزّق الغرب ما تبقى من يوغوسلافيا». بعد ذلك، بدأت روسيا بالوقوف على ركبتيها، وإعادة بناء نفسها خلسةً وبشكل سرِّي، في الوقت الذي بدت فيه في الظاهر ودودةً ومتواضعة. إلّا أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ أشار إلى نيّتها استعادة هيمنتها الاستراتيجية؛ لذلك اتخذت روسيا التي كانت لا تزال منكسرةً، قراراً مصيرياً، طوّرت بموجبه أنظمة تسليح قادرة على تحدّي التطّلعات الأميركية.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي و«حلف وارسو» العسكري، انقسمت دولهما إلى ثلاثة أقسام: المحايدة، المجموعة الموالية للغرب والمعسكر الموالي لروسيا. الدول المحايدة، كأوزبكستان وأذربيجان وتركمانستان، ليس لديها دافع للتحالف مع روسيا أو الغرب، لأنها تنتج بنفسها الطاقة وليست مدِينةً لأيٍّ من الجانبين، في الأمن أو التجارة. أمّا المعسكر الموالي لروسيا، فيضمّ: كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، بيلاروسيا وأرمينيا. ترتبط اقتصادات هذه الدول بروسيا، ومن بينها انضمّت كازاخستان وبيلاروسيا إلى روسيا، في «الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي» الجديد، وجمع الدول الخمس تحالف عسكري مع روسيا تحت مظلة «منظمة معاهدة الأمن الجماعي». كذلك، تحتفظ روسيا بوجود عسكري في قرغيزستان وطاجيكستان وأرمينيا. وأخيراً، الدول الموالية للغرب سابقاً في «حلف وارسو»، التي بات جميعها عضواً في «حلف شمال الأطلسي» أو الاتحاد الأوروبي، وهي: بولندا، لاتفيا، ليتوانيا، إستونيا، التشيك، بلغاريا، المجر، سلوفاكيا، ألبانيا ورومانيا.
بدأت تظهر بوادر حقبة «التدمير البنّاء»، منذ خطاب بوتين في عام 2007 في «مؤتمر ميونيخ للأمن»، لتتّضح بعد ذلك في قمة «الناتو» في بوخارست، في عام 2008، حين طرحت إدارة جورج بوش الابن ضمّ كلّ من جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف. وعلى رغم المعارضة الفرنسية والألمانية، انتهت القمّة يومها بإعلان ترحيب «الناتو» بدعوة الدولتين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما كان يعني نصب الشِراك استعداداً لصيد الدببة. استدعت محاولة الغرب حصار روسيا الجانب المظلم، فخرجت من محيطها لمطاردة القنّاصة، بدايةً من جورجيا في عام 2008، ومن ثمّ أوكرانيا 2014. منذ تلك اللحظة، أصبح جلياً أن الغرب يمرّ بأزمة كبيرة، ليس فقط كخيار ومسار، أو كبنية مهيمنة منذ الحرب الباردة، فبعد انقضاء استراتيجية «الحرب من أجل الخير» المسوّغ للحرب في العراق و أفغانستان وليبيا، لم يهتم «الناتو» بجورجيا بحدّ وصف وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كونداليزا رايس، بالتزامن مع حقبة «ظاهرة التقليل العسكري» الأوروبي.
لم يُعطِ الغرب روسيا ولو وعوداً بعدم ضمّ أوكرانيا بل واصل العمل على قدمٍ وساق لضربها ضربة أخيرة


لماذا تغيّر الوضع في أوكرانيا إذاً؟ هنا نسترجع لغز تشرشل. أعلنت موسكو بشكل صريح أن انضمام أوكرانيا لـ«الناتو» خطّ أحمر. حشد الغرب للسلاح والقوة العسكرية في أوكرانيا لمواجهة روسيا كان الدافع الحقيقي للتدخل الروسي، فحتى تلك اللحظة ركّزت العمليات الروسية على «إخصاء» القدرات العسكرية الأوكرانية. وفيما يرى كثيرون التدخل الروسي عملاً عدائياً، ترى موسكو عكس ذلك، أنها ليست المُعتدي، لكنها تتصرف من منطلق المُعتدى عليها. فانضمام أوكرانيا لـ«الناتو»، ونشر أسلحة مضادة لقوات الردع الروسية، وحرمان روسيا من الولوج لمنفذِها البحري الأهم استراتيجياً، يعني في لعبة الشطرنج التي يتقنها الروس: «كش ملك».
لم يُعطِ الغرب روسيا ولو وعوداً بعدم ضمّ أوكرانيا، بل واصلوا العمل على قدمٍ وساق لضربها ضربة أخيرة. آخر تلك التحركات كانت عقب التحرّك الروسي في 2014 لضمّ القرم، حين أشرفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي أي» على برنامج تدريب سرّي مكثّف في الولايات المتحدة لقوات العمليات الخاصة الأوكرانية، وأفراد استخبارات آخرين. تم إنشاء البرنامج من قبل إدارة باراك أوباما، المعروف رسمياً «باسم الإدارة الأرضية»، لتفعيل دور حروب الشوارع وتعريف الأوكرانيين بكيفية قتل الروس، بحسب مقال منشور في تشرين الثاني الفائت، بعنوان: «قد تلعب القوات شبه العسكرية الأوكرانية المدرّبة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية دوراً مركزياً في حالة غزو روسيا»، لزاك دورفمان. وهو الأمر الذي نراه جلياً الآن في أرض المعركة.
كان الاجتياح العسكري الروسي للدونباس مع ضربات جوية وصاروخية، بغرض تنعيم الأداة العسكرية النظامية المواجهة، يهدف للوصول لاتفاق بوساطة دولية لأجل حلّ شامل يمنع انضمام أوكرانيا إلى «الناتو». لكن لم يتحرّك الحلف أو الأميركي في مسار فكّ الاشتباك، لذا كان على الروسي توسيع النطاق الدفاعي للدونباس، فيما يعمل الجيش الروسي بالتوازي على إطباق الحصار على كييف، بهدف تغيير النظام السياسي، أو توجيهه بشكل جذري إلى أن يكون تابعاً. و«في حال تقبّل الوضع الأوكراني لهذا، فهذا سيقلّل من متطلب الحشد العسكري في هذه الساحة، ولكنه بالتأكيد سيُفاقم منطق التصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي للناتو ضدّه في مجمل الساحة الأوروبية»، بحسب أستاذ العلوم الاستراتيجية في «جامعة ريدنج» محمد بريك.
وفق بريك أيضاً، فإن «الناتو» سيعمل على استغلال الأزمة كغطاء دولي لتوسعة إطاره، وحشد قوات في بولندا ودول البلطيق، ثم السعي الجاد لخيار ديبلوماسي أو الاكتفاء باستعادة منطق الحرب الباردة، مع توسعة خيار العمليات العسكرية غير النظامية «حرب الشوارع» في أوكرانيا. أمّا الخيار التصعيدي الآخر، هو مسار الحرب الباردة؛ ما يعني الحشد التقليدي الشامل، والتصعيد في معادلة الردع النووي والاحتواء السياسي والعسكري والاقتصادي ضدّ الروسي دولياً. ما يعني تجييش دول «الناتو» للعودة لزمن الحرب الباردة، بالتالي انتهاء عصر «التقليل العسكري».
استهلّ الصحافي البريطاني، توم مارشال، في مقدمة كتابه «سجناء الجغرافيا» بالجملة الآتية: «يُقال إن الرئيس فلاديمير بوتين رجلٌ متديّن وشديد التأييد للكنيسة الأرثوذكسية الروسية. إذا كان كذلك فعلاً، فلا بدّ وأنه يذهب إلى مخدعه كلّ ليلةٍ وهو يتلو صلواته سائلاً الرّب: لماذا لم تخلق بعض الجبال في أوكرانيا؟ حينها لم يكن الغزاة سيتمكّنون من مهاجمة روسيا من هناك، مراراً وتكراراً عبر التاريخ».