تكشف الأزمات الدولية الخيارات الجيوسياسية والجيواستراتيجية العميقة للدول ونخبها الحاكمة، وانحيازاتها الفعلية. الحرب في أوكرانيا، وهي في الواقع نزاع بين روسيا و»حلف الأطلسي» من خلال رديفه الأوكراني، بدّدت خرافة الاستقلال الأوروبي عن الولايات المتحدة، وأوضحت، لِمَن كان بعض الشكّ يساوره، الطبيعة العضوية، الأيديولوجية والاستراتيجية، التي تجمع القارة العجوز بزعامة القبيلة الغربية الكبرى في واشنطن. بين ليلة وضحاها، بات المسؤولون الفرنسيون والألمان مثلاً، الذين كرّروا خلال السنوات الماضية أن روسيا تنتمي إلى الفضاء الأوروبي ثقافياً وحضارياً، وأن تعظيم المصالح المشتركة معها وتعزيز الثقة المتبادلة مع قيادتها، هي السبيل الأمثل للحؤول دون «ارتمائها في أحضان الصين»، دعاةَ مواجهة شاملة معها باعتبارها التهديد الأكبر للديموقراطية والتمدّن و»القيم الإنسانية». يستخدم القادة الأوروبيون شعارات من نوع الدفاع عن مبادئ القانون الدولي، وفي مقدّمتها احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية، وكذلك التضامن مع الأوكرانيين، «الذين يشبهوننا»، لتبرير انقلاب دراماتيكي في سياساتهم، كقرار الاتحاد الأوروبي، للمرة الأولى في تاريخه، تمويل مشتريات السلاح الأوكرانية، وتزويد هذا البلد بمقاتلات، وتعبئة الرأي العام في بلدانهم حول الخطر الروسي الداهم الذي أصبح على الأبواب. وفي الحقيقة، فإن النخب الحاكمة في دول الاتحاد، وتحديداً في البلدان التي أكثرَ مسؤولوها من الحديث عن ضرورة الاستقلالية الأوروبية في مجالَي السياسة الخارجية والدفاعية أيام إدارة دونالد ترامب، لو امتلكت حدّاً أدنى من استقلالية الإرادة السياسية عن واشنطن، لكانت انتهزت فرصة هذه الأزمة الدولية لبلورة اقتراح تسوية لها يقوم على مراعاة الهواجس الأمنية الروسية، ويحافظ على وحدة أوكرانيا، عبر تحييدها وفقاً لنموذج فنلندا إبان الحرب الباردة. غير أن تلك النخب لم تعد تضمّ في صفوفها منذ زمن بعيد أنصاراً لسياسة مستقلة. قناعتها الراسخة هي أنها جزء لا يتجزأ من معسكر غربي أطلسي، يَضمر نفوذه في مقابل صعود قوى غير غربية منافِسة على الصعيد العالمي، وهي تعرّف مصالحها الوطنية الحيوية على قاعدة الانتماء المذكور.
«كلنا أوكرانيون» أم «كلنا أميركيون»؟
أثارت بعض المقولات والمفردات الواردة في تقارير وتعليقات صحافيين ومحللين غربيين في وسائل إعلامية بارزة، كشبكة «سي أن بي سي» الأميركية و»فرنسا 24» وغيرها، حول اللاجئين الأوكرانيين «البيض والمسيحيين والمتحضّرين»، وعدم جواز القبول بتعرّضهم للقصف بصواريخ «كروز» و»كأنهم عراقيون أو سوريون أو أفغان»، استهجاناً في أوساط بعض الليبراليين العرب، لِما تشي به من تمييز عنصري بين الضحايا. سيسارع بعض هؤلاء، إن لم يكونوا قد فعلوا، للتأكيد أن مثل هذه المواقف لا يتحمّل مسؤوليتها سوى أصحابها، وليس المؤسسات الإعلامية التي يعملون لحسابها أو الحكومات الغربية. يغيب عن بال هذا البعض، أننا نشهد في الغرب، على مستوى الخطاب الإعلامي، حالة تعبئة شاملة وتوحيد لمفرداته، حدت بحكومات الاتحاد الأوروبي إلى انتهاك مبدأ «حرية التعبير» «المقدس»، وحظر بثّ قناتَي «روسيا اليوم» و»سبوتنيك» الروسيتَين بذريعة ترويجهما الإشاعات لتضليل الرأي العام الغربي. في لحظة الأزمات، تنجلي حقيقة وسائل الإعلام في الرأسماليات البرلمانية باعتبارها أجهزة دعاية أيديولوجية للدول، لا أكثر. من يشكّ بذلك، عليه أن يتذكّر كيف روّجت تلك الوسائل الإعلامية لأكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، وإمكانية استخدامها داخل دول الغرب خلال حربَي 1991 و2003 ضد العراق. قيامها بالاعتذار بعد الحروب، إثر اتضاح أكاذيبها، للحفاظ على درجة من الصدقية، لا يهمّ. المهمّ هو أنها أدت دورها على أكمل وجه لتجييش الرأي العام لصالح خيار الحرب.
شعار اليوم هو «كلنا أوكرانيون» لكن ترجمته العملية هي الانخراط بقيادة واشنطن في حرب بالوكالة ضدّ روسيا


في اليوم التالي لهجمات 11 أيلول 2001، كتب جان ماري كولومباني، رئيس التحرير الأسبق ليومية «لوموند» الفرنسية «الرصينة»، افتتاحية بعنوان «كلنا أميركيون»، مفادها أن تلك الهجمات لم تستهدف الولايات المتحدة وحدها، بسبب سياساتها في الفضاء العربي - الإسلامي، بل «العالم الحر» بأسره وما يمثله من «نموذج حضاري ومنظومة قيم». أتت هذه الافتتاحية لتسوّغ انقياد الغرب الأوروبي خلف واشنطن في «الحرب على الإرهاب». شعار اليوم هو «كلنا أوكرانيون»، لكن ترجمته العملية هي الانخراط بشكل كامل بقيادة واشنطن في حرب بالوكالة ضدّ روسيا في أوكرانيا. لم تنصت النخب الأوروبية إلى دعوات روسيا المتكررة لوقف توسيع «الناتو» شرقاً، والتعامل معها على أساس الندّية، ومراعاة أمنها القومي، والعدول عن استراتيجية احتوائها وتطويقها. التحوّل المتسارع في موازين القوى الدولية، نتيجة للتراجع المستمرّ لقدرة الولايات المتحدة على السيطرة على العالم والتحكّم بشؤونه، وتزايد وزن وتأثير قوى غير غربية، كالصين وروسيا، يسبّبان ذعراً حقيقياً في أوساط النخب السياسية الغربية، ممّا تراه أفولاً لـ500 عام من الهيمنة على المعمورة. وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كان قد دعاها في قمة ميونيخ للأمن والتعاون في 2018، إلى تهدئة روعها، والاعتياد على فكرة عالم ما بعد الغرب، لكن من الواضح أنه لم ينجح في إقناعها بذلك.

موازين القوى وتعريف المصالح الوطنية
يرتبط تعريف مفهوم المصالح الوطنية لأيّ دولة من الدول بموازين القوى التي تحكم علاقاتها بغيرها. المصالح الوطنية تتّسع أو تنحسر بناءً على قوتها وقدرتها على الحفاظ عليها وتعظيمها. في زمن انقضى، كانت مصالح فرنسا وبريطانيا، بفضل السيطرة الاستعمارية، تشمل أقساماً واسعة من آسيا وأفريقيا، لكنها عادت وانحسرت نتيجةً للحرب العالمية الثانية ولحروب التحرّر الوطني الموجّهة ضدّهما في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. الخيار الذي طغى في أوساط النخب الحاكمة الأوروبية منذ ذلك التاريخ، إذا استثنينا إلى حدّ ما الحقبة الديغولية في فرنسا، هو الاندراج في الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، من خلال «الحلف الأطلسي»، و»الشراكة معها» ولو من موقع أدنى، للحفاظ على ما بقي لها من نفوذ ومصالح. هي تمتلك شبكة مصالح وازنة اقتصادية في مجال الطاقة مع روسيا والصين، لكنها تنظر إلى التغير التدريجي ولكن المستمرّ في موازين القوى الاستراتيجية لصالح هذين البلدين على أنه سينعكس بالضرورة سلباً على موقعها الدولي ومصالحها. أول الدروس التي يمكن استخلاصها من الحرب الحالية في أوكرانيا، هو أن النخب الأوروبية فضّلت التضحية بمصالحها البينية في مجال حيوي كالطاقة مع روسيا، لحساب السعي لتأبيد الهيمنة الاستراتيجية الغربية بقيادة أميركية.