عصرٌ روسي جديد
من التدمير البنّاء إلى إعادة التجميع


يبدو أنّ روسيا دخلت حقاً نحو حقبة جديدة من سياستها الخارجية، يمكن تسميَتها بنهج «التدمير البنّاء» لنموذج العلاقات السابق مع الغرب.
(...) في الوقت الحالي، يمضي الغرب في طريقه نحو الانهيار، وإن كان بشكل بطيء، ولكنّه حتمي، سواء من حيث الشؤون الداخلية والخارجية، أو حتى الاقتصاد.
(...) ما أعتقده، أنّ الغرب على الأرجح سيخسر هذه المعركة، وسيتنحّى جانباً عن مركز القيادة العالمي ليصبح شريكاً، وهو الشكل الأكثر منطقية. وفي لحظة ليست بالمبكرة: «ستحتاج روسيا إلى موازنة العلاقات مع الصين الصديقة، ولكنّها الأكثر قوة أيضاً على نحوٍ متزايد».
في الوقت الحاضر، يحاول الغرب يائساً الدفاع عن هذه الهيمنة، عبر خطابه العدواني الحالي الذي يهدف إلى توحيد معسكره، واللعب بما تبقّى لديه من أوراق رابحة لعكس هذا الاتجاه. إحدى هذه الأوراق، محاولة استخدام أوكرانيا لإلحاق الضرر بروسيا وتحييدها. من المهم في هذا الشأن، منع هذه المحاولات المتشنّجة الحالية للولايات المتحدة و»حلف شمال الأطلسي»، من أن تتحوّل إلى مواجهة شاملة؛ لأنّ ذلك قد يأتي بنتائج عكسية وخطيرة، على الرغم من عدم إدراك الغرب نسبياً لخطورة هذا النهج. لا يزال يتعيّن علينا إقناع الغربيين بأنهم فقط يضرّون أنفسهم.
(...) بالنسبة إلى روسيا، يجب أن يصبح المسار الغربي ثانوياً بالنسبة إلى ديبلوماسيّتها الأوراسية - قد يؤدّي الحفاظ على العلاقات البنّاءة مع الدول الواقعة في الجزء الغربي من القارّة الأوروبية، إلى تسهيل اندماج روسيا في منطقة أوراسيا الكبرى، ولكنّ النظام القديم يحول دون ذلك؛ ولذا لا بدّ من تفكيكه.
(...) في الوقت الحالي، لا يمكنني إلّا أن أشير إلى ما هو واضح بالفعل: «معظم النخَب المحلية للبلدان المستقلّة عن الاتحاد السوفياتي، لا تملك الخبرة التاريخية أو الثقافية لبناء الدولة». لقد أثبتوا أنّهم غير قادرين على أن يشكّلوا نواة أمّة، ولم يكن لديهم الوقت الكافي لذلك. عندما اختفى الفضاء الفكري والثقافي السوفياتي المشترك، كانت الدول الصغيرة هي الأكثر تضرّراً؛ حيث تبيّن لها أنّ الفرص الجديدة لبناء العلاقات مع الغرب ليست بديلاً. (...) وليس أمام هذه الدول إلّا أن تحذو حذو دول البلطيق، وذلك من خلال قبول السيطرة الخارجية، أو أن تتّجه نحو الفوضى والخروج عن نطاق السيطرة، وهو الأمر الذي قد يكون في بعض الحالات خطيراً جداً.

المحطّات التي مررنا بها
اليوم، نشهد بداية العصر الرابع لسياسة روسيا الخارجية: "بدأ العصر الأول في أواخر الثمانينيات، وكان يمثل وقت الضعف والأوهام". (...) بعد ذلك، بدأت روسيا بالوقوف على ركبتيها، وإعادة بناء نفسها خلسةً، وبشكل سري، في الوقت الذي بدت فيه - في الظاهر - ودودة ومتواضعة. إلّا أنّ انسحاب الولايات المتحدة من "معاهدة الصواريخ المضادّة الباليستية" (ABM)، أشار إلى نيّتها استعادة هيمنتها الاستراتيجية؛ لذلك اتخذت روسيا - التي كانت لا تزال مُنكسرة - قراراً مصيرياً لتطوير أنظمة تسليح قادرة على تحدّي التطلّعات الأميركية.
إنّ خطاب مؤتمر ميونيخ، والحرب الجورجية، وإطلاق عملية إصلاح الجيش التي أُجريت وسط أزمة اقتصادية عالمية، أدّت إلى نهاية الإمبريالية الليبرالية العالمية الغربية (المصطلح الذي صاغه الخبير البارز في الشؤون الدولية، ريتشارد ساكوا Richard Sakwa). بعد ذلك، ظهر هدف جديد لروسيا في مجال السياسة الخارجية؛ وهو أن تصبح - مرة أخرى - قوة عالمية رائدة يمكنها الدفاع عن سيادتها ومصالحها. تبعت ذلك أحداث شبه جزيرة القرم وسوريا، وتبنّي سياسة الحشود، ومنع الغرب من التدخّل في الشؤون الداخلية لروسيا، واستبعاد من دخلوا في شراكة مع الغرب، على حساب وطنهم من الخدمة العامّة، بما في ذلك من خلال الاستخدام البارع لرد الفعل الغربي على تلك التطورات. مع استمرار التوترات في التصاعد، أصبح التقييم العام للاحتفاظ بالعلاقات مع الغرب، ينظر إليه على أنه أقل ربحاً بشكلٍ متزايد، وتزامن ذلك مع الصعود المذهل للصين، وتحوّل علاقتنا مع بكين نحو التحالف الفعلي بدءاً من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبناء محور يتّجه نحو الشرق، وما رافقه من أزمة متعدّدة الأبعاد أحاطت بالغرب، وقد أدّى هذا كلّه إلى تحوّل كبير في التوازن السياسي والجغرافي الاقتصادي لصالح روسيا.
(...) انتهت فترة "العودة إلى العظمة"، بين عامي 2017 و2018. بعد ذلك، وصلت روسيا إلى مرحلة الاستقرار، مع استمرار عملية التحديث، لكن الاقتصاد الضعيف كان يهدّد بفقدان كلّ هذه الإنجازات.
(...) الإنذار الذي وجهته روسيا إلى الولايات المتحدة و"حلف شمال الأطلسي"، نهاية عام 2021، يمثّل مطالبتهما بالتوقف عن تطوير البنية التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وإيقاف التوسّع شرقاً، وهو ما يمثّل بداية لعملية "التدمير البناء" لوضع الأساس لنوع جديد من العلاقات بين روسيا والغرب، يختلف عمّا استقرّت عليه في التسعينيات.

(...) سياسات لروسيا الغد
مع استمرار النظام العالمي القائم في الانهيار، يبدو أنّ المسار الأكثر حكمة لروسيا هو البقاء خارجه أطولَ فترةٍ ممكنة، «من خلال الاختباء داخل جدران حصنها الانعزالي الجديد»، والتعامل مع الأمور الداخلية، لكن التاريخ - هذه المرة - يتطلّب منّا أن نتحرّك. إنّ كثيراً من اقتراحاتي في ما يتعلّق بنهج السياسة الخارجية، الذي أسميته مؤقتاً «التدمير البنّاء»، ينبثق - بشكل طبيعي - من التحليل المقدّم أعلاه.
(...) من المتوقع أن يحاول شركاؤنا الغربيون إسكات دعوات روسيا إلى الحصول على ضمانات أمنية، والاستفادة من العملية الديبلوماسية الجارية من أجل إطالة عمر مؤسّساتهم.
(...) يمكن القول إنّ العلاقات مع الغرب هدفها تقليل الضرر، والتعاون كلما كان ذلك ممكناً. إن الآفاق والتحديات الحقيقية لحاضرنا ومستقبلنا تكمن في الشرق والجنوب. إن اتخاذ موقف أكثر تشدداً مع الدول الغربية يجب ألا يصرف انتباه روسيا عن الحفاظ على محورها في الشرق. وقد رأينا هذا المحور يتباطأ في العامين أو الثلاثة أعوام الماضية، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بتطوير مناطق خارج جبال الأورال.
(...) سيكون الاستثمار في الشرق عبر الشروع في عملية تنمية سيبيريا أكثر فاعلية، وذلك من خلال خلق ظروف عمل ومعيشة مواتية. لن نجتذب فقط المواطنين الروس، ولكن أيضاً الأشخاص من الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية الروسية السابقة، بمن في ذلك الأوكرانيون الذين أسهموا تاريخياً، بقدر كبير، في تطوير سيبيريا.
(...) يكمن المسار الواعد لروسيا في تنمية العلاقات مع الصين وتعزيزها: «من شأن الشراكة مع بكين أن تضاعف إمكانات كلا البلدين عدة مرات». إذا استمر الغرب في سياساته العدائية المريرة، فلن يكون من غير المعقول التفكير في تحالف دفاعي مؤقت لمدة خمس سنوات مع الصين.
بطبيعة الحال، يجب علينا أن نحرص على حماية الصين من «الشعور بالدوار من النجاح»، وذلك حتى لا تعود إلى نموذج الإمبراطورية الصينية في العصور الوسطى، التي نمت ثم حوّلت جيرانها إلى تابعين. يجب أن نساعد بكين حيثما أمكننا لمنعها من المعاناة حتى من هزيمة مؤقتة في الحرب الباردة الجديدة التي أطلقها الغرب ضدّها، هذه الهزيمة ستضعفنا أيضاً.
(...) من الواضح أنّ السياسة الموجهة نحو الشرق يجب ألا تركّز فقط على الصين. يشهد كلّ من الشرق والجنوب تصاعداً في السياسة، والاقتصاد، والثقافة العالمية، ويرجع ذلك جزئياً إلى تقويضنا للتفوّق العسكري للغرب «المصدر الأساسي لهيمنته على مدى 500 عام».
عندما يحين الوقت لتأسيس نظام جديد للأمن الأوروبي ليحل محل النظام الحالي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير، يجب أن يتم ذلك في إطار مشروع أوراسيا الكبرى. لا شيء يستحق العناء يمكن أن يولّد هذا النظام الجديد من رحم النظام الأوروبي الأطلسي القديم. من البديهي أن النجاح يتطلب تطوير الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية للبلاد وتحديثها، مع جميع ركائز القوة العسكرية التي تمثل لأيّ دولة العمود الفقري لسيادتها وأمنها.

(مركز الدراسات العربية الأوراسية - سيرغي كاراغانوڤ - بتصرّف)
*سيرغي ألكسندروفيتش كاراغانوف، عالم سياسي روسي يرأس «مجلس السياسة الخارجية والدفاعية»، وهي مؤسّسة تحليلية أمنية. كما أنه عميد كلية الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو. كان كاراغانوف مستشاراً رئاسياً لكلّ من بوريس يلتسين، وفلاديمير بوتين.