بعد نحو شهرين من اندلاع «ثورة الميدان» في أوكرانيا، بدأ «الميدان» يخلو شيئاً فشيئاً من روّاده، غير مُنذرٍ بـ»الثورة المنتظرة». على المسرح، شابٌّ يؤدي أغنية، وبعض المتظاهرين الذين تبدو عليهم علامات الملل واللامبالاة والبرد. وحدها مجموعات من القوميين الذين خرجوا على شكل ميليشيات مسلّحة، كانت حاضرة بحماسة، لتقدّم «عرضاً» في ذكرى اندلاع مواجهة بين طلاب أوكرانيين ومجموعة من البلاشفة. آنذاك، كانت وسائل الإعلام الغربية، على غرار «أن بي سي نيوز»، قد بدأت بالاعتراف بأن مثل هذه المجموعات من «النازيين الجدد» أو «النيو-نازية»، أو المتّهمة بذلك على الأقلّ، المتّكئة على الدعم الأميركي، وعلى رأسها «حزب القطاع الأيمن» اليميني المتطرّف، الذي نشأ تزامناً مع «ثورة الميدان»، أصبحت المجموعات الطليعية التي تدير التحرّكات وأعمال الشغب التي أسفرت عن قتلى من جانب المتظاهرين وقوى الأمن، وساهمت إلى حدٍّ كبير في تعزيز الأزمة الروسية - الأوكرانية التي يشهدها العالم اليوم، عبر تعزيز الانقسام بين القوميين الأوكرانيين والمواطنين الموالين لروسيا شرق البلاد.كانت الاحتجاجات يومها تهدف إلى الإطاحة بالرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش. بالنسبة إلى هذا الرئيس، لم تكن هذه الموجة الأولى من نوعها، علماً أن «الثورة البرتقالية» عام 2004 كانت قد أطاحت به على خلفية انتشار إشاعات عن تلاعب بأصوات الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة. احتجاجاتٌ اعترف «مركز التقدم الأميركي» (Center for American Progress) بتدخّل واشنطن فيها، معتبراً أن «تدخّل الأميركيين في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، لا سيما عبر المنظمات غير الحكومية، كان يهدف إلى خلق تغيير سياسي في أوكرانيا»، أكثر ميلاً إلى الغرب، وفق ما نقلت عنه مجلّة «جاكوبين» الأميركية. خلال السنوات الستّ التي تلت «الثورة البرتقالية»، تمكّن يانوكوفيتش من إعادة بناء شعبيّته، وفاز في الانتخابات الرئاسية لعام 2010.
لم يتوقّف الدعم الأميركي للمجموعات اليمينية عند حدود الاحتجاجات والإطاحة بالرئيس الأوكراني


وظاهرياً، يعدّ السبب المباشر للثورة الثانية ضدّ يانوكوفيتش، أو ما يُسمّى بـ»ثورة الميدان» أو «ثورة الكرامة» الشهيرة، تراجعه عن توقيع اتّفاقية مع الاتّحاد الأوروبي، تخوّفاً من الخسائر الاقتصادية التي قد تنتج من تقليل روسيا من تبادلاتها التجارية مع بلاده، في حال انتهاجها سياسةً تميل ميلاً وثيقاً باتّجاه الغرب، وإغرائها بعرض يعادل ما كان قد عرضه عليها «صندوق النقد الدولي». أمّا الأسباب الثانوية، فتتمثّل بتفشّي الفساد والمحسوبية في الداخل الأوكراني. بطبيعة الحال، لم يكن تدخّل المنظّمات غير الحكومية الغربية أو القادة الغربيين في هذه الاحتجاجات سرّياً أيضاً، إنّما اللافت أن الدعم الأميركي هذه المرّة كان يصبّ أكثر فأكثر في صالح الجماعات اليمينية المتطرّفة، غير المهتمّة طبعاً بقضية القرب من الاتحاد الأوروبي أو البعد عنه، إنما وجدت في الاحتجاجات فرصة مناسبة للوصول إلى السلطة، فاتّخذت، مع تقدّم الوقت، على عاتقها، مهمّة الإبقاء على «زخم الثورة»، عبر زيادة وتيرة العنف ونشر مشاعر الانقسام في الداخل.

أنصار بانديرا
بالرغم من أنّهم لا يعدّون أكثرية، فلعلّ أبرز دليل على استلام هذه الجماعات اليمينية المتطرفة زمام الأمور في الاحتجاجات، انتشار صور ستيبان بانديرا، الزعيم الأوكراني الذي تحدّثت صحيفة «واشنطن بوست» عن «علاقات تكتيكية كانت تجمعه بـ(الحزب النازي) الألماني»، على الجسور ومداخل كييف ويافطات المتظاهرين وجميع الأماكن عام 2013. ومن هذه الجماعات، «حزب سفوبودا»، الذي تناقلت وسائل الإعلام الغربية نبذات عن تاريخه، عقب زيارة أحد أعضاء مجلس الشيوخ، السيناتور جون ماكين، إلى كييف، عام 2013، والتقاطه صورة مع رئيسه، أوليه تيانيبوك، معرباً عن دعمه الكامل له. آنذاك، ذكّر موقع «إنسايدر» الأميركي، بأنه لدى تأسيسه عام 1995، كان «سفوبودا» يُسمّى «الحزب الاجتماعي الوطني الأوكراني» (SNPU)، وشعاره شبيهاً بشعار النازية. وحتى بعد إعادة هيكلته وأخذه حصة في السلطة، ظلّ الحزب يركّز على أهمية الهوية العرقية الأوكرانية «في مواجهة روسيا والشيوعية». أضف إلى ذلك، «حزب القطاع الأيمن»، الذي نظّم أعنف المواجهات المسلّحة مع الشرطة في كييف، ودعا إلى الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. وتزامناً مع هذه المظاهر، كانت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاترين أشتون، على سبيل المثال، توزّع السندويشات في «الميدان» تعبيراً عن دعمها للمتظاهرين.
على الأرجح، لم يتوقف الدعم الأميركي لهذه الجهات عند حدود الاحتجاجات والإطاحة بالرئيس الأوكراني. ففي العام 2019، نشر موقع «دايلي بيست» الأميركي تقريراً حول وحدة في الحرس الوطني الأوكراني تُعرف بـ»أزوف باتاليون» (Azov Battalion)، متّهمة بتأييد النازية وتفوّق البيض، تساءل فيه عن مدى معرفة الحكومة الأميركية، بالرغم من إصدارها بعض القوانين التي تحول دون وصول المساعدات إلى أعضاء المجموعات اليمينية أو تلقّيها تدريبات على أيدي جنود أميركيين، عمّا إذا كانت الوحدة المذكورة لا تستفيد فعلياً من مساعدة كهذه، خصوصاً أن أحد أعضائها تحدّث في مقابلة مع الصحيفة، عن تجربة كتيبته مع مدرّبي الولايات المتحدة ومتطوّعيها، مشيراً إلى المهندسين المتطوّعين والمسعفين الأميركيين الذين يقدّمون لهم المساعدة.
من جهته، لفت موقع «ذي إنترسبت» (The Intercept)، في تقرير خلال الشهر الجاري، إلى أنه وسط انخراط الديموقراطيين في مجلس الشيوخ في العمل على توفير المساعدات المالية لشراء الأسلحة وإرسالها إلى كييف، غاب عن بال المشرعين إيجاد سبل فعلية «لمنع وصول هذه المساعدات إلى مجموعات النازيين الجدد سيئة السمعة». أمّا صحيفة «جاكوبين»، فذكرت أن وكالة الاستخبارات المركزية تدرّب، منذ العام 2015، الجماعات المناهضة لروسيا في أوكرانيا، مؤكدّةً أنّ معلوماتها تشير إلى احتمال أن تكون هذه التدريبات تشمل «النازيين الجدد، ملهمي الإرهابيين اليمينيين المتطرفين في جميع أنحاء العالم». واليوم، يرى المراقبون أن واشنطن تخوض مغامرة جديدة من مغامراتها الشهيرة حول العالم، التي تدعم من خلالها مجموعات متطرّفة بهدف تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية في البلدان الخارجية، معتبرين أنها «لم تتعلّم بعد من عشرات التجارب السابقة التي لطالما أودت إلى كوارث حول العالم».