في السنوات الماضية، تحوّلت العقوبات المالية والاقتصادية إلى سلاح مفضّل عند الولايات المتحدة. ويذهب الكثيرون إلى تفسير هذا الميل بالخشية الأميركية من التورط في حروب جديدة، وبالأخص بعد تجربة حربَي أفغانستان والعراق. وقد يقودنا ذلك إلى الحديث عن أن استعمال هذه الأدوات، أي العقوبات المالية والاقتصادية، هو وجه من أوجه الضعف الأميركي. ولكن الكلام المتقدّم قد لا يكون دقيقاً، بل حتى يمكننا أن نقول إنّه مجانب لحقيقة طبيعة النظام العالمي. العقوبات تجلٍّ لقناعة راسخة عند الولايات المتحدة باستمرارية قوتها وهيمنتها على النظام.لأتمكن من شرح هذه النقطة، يجب أن نغوص معاً في محاولة إعادة تصور العالم الذي نعيش فيه. نحن نعيش في عالم شديد التواصل، ليس من ناحية التواصل الإنساني أو الاجتماعي. المعنى هنا هو التواصل الاقتصادي، وبما هو أبعد من التواصل التجاري البحت. ففي عالمنا اليوم، تتداخل سلاسل إنتاج سلعة واحدة على امتداد قارات، حيث تُستخرج المواد الأولية من قارة، وتُحوّل إلى سلعة وسيطة في قارة أخرى، وتُصنّع سلعة نهائية في قارة ثالثة، بينما يتمّ تطوير التكنولوجيا التي تتحكم بكلّ عمليات هذه السلسلة في قارة رابعة. وهذا التداخل/ التواصل لم يكن ليحصل لو أنه لم يسبقه تدفق رؤوس الأموال بحريّة تامة عبر الحدود، لتمويل سلاسل الإنتاج. ومع الوقت، تحوّلت معظم اقتصادات الكوكب لتخدم تلك السلاسل، فأضحى كلّ بلد يتجه إلى دعم القطاعات التي تسهّل عمل السلاسل المتداخلة، حيث يمكن تحصيل أكبر قدر من القيمة المضافة من الإنتاج عبر التركيز على دعم وتطوير القطاعات التي «يتميز» بها هذا البلد أو ذاك. فمثلاً، لِم نزرع القمح أو فول الصويا إذا كان بإمكاننا شراؤها بأسعار زهيدة من الولايات المتحدة وروسيا والبرازيل؟ ولِم نستثمر في تجهيز البنية التحتية للصناعات التحويلية في حين يمكننا شراء السلعة الوسيطة من بلدان تتوافر فيها طاقة ويد عاملة رخيصتان؟ ولِم لا نركز كلّ مواردنا في تطوير القطاعات التي توفّر لنا أكبر قدر من القيمة المضافة بسبب مميزات معينة في بلدنا؟ هكذا، تحولت الاقتصادات الوطنية إلى تروس في آلة الاقتصاد العالمي الموحد، تخدم سلاسل إنتاج متداخلة وممتدة، ورأس المال المتدفق قبلها.
وما نعيشه ونتلمّسه في العالم هو من أعراض هذا التواصل، فنتمكن من استهلاك السلع بمستوى لم يسبق للبشرية أن اختبرته. فيبدو للوهلة الأولى أن الاستهلاك عالي الكمّ في متناول أيّ شخص على سطح الكوكب، وإن كان فقيراً. فلكل سلعة غالية مثيلتها الأرخص، ولكلّ خدمة توفر رفاهية بديلتها ذات السعر المعقول والمقبول، وكلّ ما على أحدنا القيام به، هو العمل بجدّ أكبر لنتمكن من فتح رصيد ائتماني أكبر، يسمح لنا بالاستدانة أكثر للاستهلاك على مستوى أعلى. وهنا لبّ القضية، فذلك المال الذي نستدينه للاستهلاك هو رأس مال غربي يَعبر الحدود ليدخل إلى أسواقنا المالية؛ وفي الحقيقة ما هو إلا فوائض القيمة المضافة التي حققها مركز النظام العالمي ــــ وعلى رأسه الولايات المتحدة ــــ من العمليات الاقتصادية.
تحمل الولايات المتحدة مفاتيح العالم، وتستطيع أن تطردك منه أنّى تشاء، وفي الوقت عينه إن لم تكن أنت جزءاً منه فلن تستطيع أن تستهلك كما باقي البشرية، حتى على مستوى الأساسيات. والعقوبات الاقتصادية والمالية هي المفاتيح، التي لم تكن لتتمكن الولايات المتحدة من استعمالها لولا هيمنتها المطلقة على النظام العالمي. وعملياً، نحن نشهد منذ أولى موجات الأمولة (financialization)ــــ في نهاية سبعينيات القرن الماضي ــــ استعمال هذا السلاح بشكل مطّرد ومركّز أكثر فأكثر، حتى شهدنا مآسي الحصار والعقوبات على فنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وإيران. والأمولة هي عملية تحويل الاقتصاد على المستويين الكلي والجزئي إلى اقتصاد يتمحور حول القطاعات المالية ويخدم عمليات رأس المال. إذاً، لا إمكانية للعيش خارج نظام الاقتصاد العالمي، أو هكذا كنّا نظن!
العقوبات الاقتصادية هي المفاتيح التي لم تكن لتتمكن واشنطن من استعمالها لولا هيمنتها على النظام العالمي


في كل مقاييس عالمنا الذي نعيش فيه، تُعَدّ الحرب التي اشتعلت البارحة «حرب خاسر ــــ خاسر». أوكرانيا ستُدمّر، وأوروبا الغربية ستجد نفسها محرومة من الطاقة الرخيصة. وفي المقابل، روسيا ستخسر الأسواق الأوروبية، والأرجح أنها ستجد نفسها مطرودة من الأسواق المالية العالمية ومن الاقتصاد العالمي. ذلك فحوى ما يهدد به القادةُ الغربيون على الأقلّ. ولكن في مقاييس عالم آخر وموازٍ، ربما هو قيد التشكل، روسيا رابحة، لأنها وبكلّ بساطة ستضمن بعض أمنها الاستراتيجي اليوم وتفتح الباب أمام استعادته بالكامل في المستقبل. وفي هذا العالم، ستجد موسكو الصين في ظهرها تدعم خطواتها (وربما أكثر، فلنبق عيناً مفتوحة على مضيق تايوان)، وستجد إيران المتمرسة في عالم الصمود في وجه العقوبات والحياة خارج النظام الاقتصادي العالمي. المواطنون الروس لن يتمكنوا من الاستهلاك بشراهة، ولكن لن يُعدموا الحياة، كما لو أن هذه العقوبات فُرضت عليها قبل عشر سنوات. ولكن الأكيد أن جزءاً من رهان الغرب كان على أن روسيا لن تضحّي بمئات المليارات من الصادرات السنوية، من خلال المخاطرة بطردها من نظام الاقتصاد العالمي الموحد، وأن شؤوناً كالأمن الاستراتيجي لن تطغى على تدفق رأس المال في اقتصادات الأمولة. ولكن هذه حسابات عالم قديم.