قبل أن يبدأ الهجوم الروسي في أوكرانيا، رسمت الولايات المتحدة سقفاً للعقوبات ضدّ موسكو، بحيث لا تطال تدفّقات النفط والغاز الروسي إلى الخارج، حتى لا تتحوّل إلى عقوبات ذاتية يفرضها الرئيس جو بايدن على نفسه، بعد أن «كَوَتْ» ارتفاعات أسعار النفط والغاز السابقة جيوب الأميركيين، ومعها حظوظ حزبه الديموقراطي في الفوز في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني المقبل، وتكاد تكوي حظوظه هو نفسه في التجديد لولاية ثانية، حين سينافس، كما هو مرجَّح، خصمه دونالد ترامب على الرئاسة في العام 2024. ومع هذا، لم يكن أمام بايدن، أقلّه في العلن، سوى التهويل بعقوبات قاسية على موسكو؛ ذلك أن الخطأ الذي ارتكبه بتحريض الأوكرانيين على التشبّث بموقفهم، لا يمكن العودة عنه.وعلى رغم أن أسعار النفط كسرت حاجز المئة دولار النفسي الذي يُذكّر بالأسعار التي قادت إلى الأزمة المالية العالمية في أواخر عام 2008، إلّا أن الارتفاع ما زال مضبوطاً، بخاصة أن الحديث يجري عن أن واشنطن سوف تتجنّب اتّخاذ أيّ إجراء عقابي يقطع إمدادات النفط الروسي ويشعل أسعار النفط والتضخّم العالمي. يمكن للعالم أن يخفّف من الآثار الاقتصادية للحرب، والتي تمثّلت بصورة أولية في ارتفاعات في أسعار الطاقة وتراجعات في أسواق المال، أو على الأقلّ أن يتجنّب الانزلاق إلى أزمة ركود جديدة، شرط أن تتضافر عوامل على ذلك، منها رفع إنتاج النفط والغاز، وتحييد سلاح العقوبات التي يهوّل بها الغرب على روسيا، ولو نسبياً، عبر استثناء تدفّقات الغاز والنفط الروسية من أيّ إجراءات.
ممّا لا شكّ فيه أن حرباً بهذا الحجم ستؤثّر سلباً لا على إمدادات الطاقة وأسعارها فقط، بشكل لا ينفع معه التعويض من أطراف ثالثة، كالذي يجري الحديث عنه من قطر بالنسبة للغاز، والسعودية بالنسبة للنفط، إلّا أن هذا التأثير يرتبط ارتباطاً مباشراً بطول مدّة الحرب واتّساع نطاقها، أي بكلام آخر، بظهور نتيجة سريعة لها. وكذلك، تبقى إمكانية التعويض من أطراف ثالثة، مرتبطة بحسابات تلك الأطراف نفسها؛ فإذا كانت قطر، على سبيل المثال، منخرطة ضمناً في التحالف الأميركي الذي يدعم أوكرانيا، ولا يمنعها من التعويض عن نقص الغاز سوى محدودية إمكانياتها لزيادة الإنتاج، والتزاماتها مع زبائن آخرين، فإن الدوحة، كعاصمة خليجية صغيرة تنشد الحماية، لن تذهب إلى إغضاب روسيا في ذروة قوّتها وحضورها العالمي.
أمّا السعودية، تحت قيادة وليّ العهد محمد بن سلمان، فتبدو مستفيدة ممّا يحدث، ويمكنها أن تستخدمه في تصفية الحساب مع الولايات المتحدة، وهو حساب معقّد وقديم يختلط فيه النفور الشعبي السعودي من الأميركيين، بالخلاف الكبير بين إدارة بايدن وبين نظام ابن سلمان. فلن يأتي هذا الأخير بأيّ حركة لكبح أسعار النفط، إلّا إذا حصل على مقابل مناسب من الولايات المتحدة مِن مِثل إنهاء بايدن مقاطعته، بخاصة أن وليّ العهد كان قد ذهب بعيداً، ولو من باب المناكفة، في التعويل على روسيا والصين بالذات، عندما تحدّث في آخر مقابلة له قبل أقلّ من عام عن «خيارات واسعة» حول العالم، قائلاً إن «الصين أعلنت أن المملكة شريك استراتيجي، والهند وروسيا كذلك»، مضيفاً أن «الولايات المتحدة كانت في الخمسينيات تشكّل 50 في المئة من اقتصاد العالم، واليوم حجم الاقتصاد الأميركي يشكّل 20 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي».
إمكانية تعويض إنتاج النفط والغاز من أطراف ثالثة، مرتبطة بحسابات تلك الأطراف نفسها


وتعزيزاً للاتجاه المُشار إليه، كشف موقع «إنترسبت» الأميركي أن شراكة روسيا والسعودية نمت بشكل دراماتيكي في السنوات الماضية، ما منح أكبر مُصدّرَيْن للنفط في العالم قدرة غير مسبوقة على «التآمر» في قرارتهما النفطية. وهذا، بحسب الموقع، كان سبباً رئيساً في ارتفاع أسعار الغاز، أهملتْه وسائل الإعلام، مركّزةً على أزمة أوكرانيا كسبب للارتفاع. وبحسب التقرير، فإن علاقة المملكة مع الولايات المتحدة كانت قد تدهورت في غضون ذلك، كما ظهر في وقت سابق من الشهر الجاري، عندما ناشد بايدن السعوديين زيادة إنتاج النفط، وهي خطوة لم تكن لتساعد فقط في التخفيف من ارتفاع التضخم وأسعار الغاز، لكنها تُخفّض أيضاً أرباح روسيا الباهظة وسط هجومها على أوكرانيا، إلّا أن ولي العهد السعودي رفض تلبية الطلب.
على أن الخسارة الأميركية مع ذلك، لا تقارَن بتلك الأوروبية، اقتصادياً وسياسياً. إذ إن أوروبا هي التي ستتحمّل النتائج الكارثية للحرب، سواءً في تقطّع إمدادات الغاز الروسي التي تمرّ حالياً عبر أوكرانيا، أو في اضطرار برلين إلى التخلّي مؤقّتاً عن مشروع خطّ أنابيب «السيل الشمالي 2»، الذي كان يُفترض أن يوفّر بديلاً للأراضي الأوكرانية لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، فإذا به يتعطّل قبل توقّف تلك الإمدادات، أو في حالة حدوث نزوح جماعي من الدولة التي يقطنها 42 مليون نسمة، صوب البلدان الأوروبية المجاورة.
يمكن القول إن ارتفاعات أسعار النفط والغاز تجاوزت الصدمة الأولى للحرب، فتراوحت الارتفاعات بين 6.5 في المئة و8 في المئة للنفط إلى ما بين 103 و105 دولارات لبرميل خام برنت، وبين 2.5 و6.5 في المئة للغاز الطبيعي إلى ما بين 4.75 و4.9 دولار للمليون وحدة حرارية. وبينما افتتحت الأسواق الأميركية تداولاتها بخسائر متواضعة، تمثّلت بتراجع «داو جونز» بأقلّ من 2 في المئة، فإن أكبر الخاسرين في أسواق المال كان مؤشّر «داكس» الألماني الذي هبط 4.5 في المئة، و«كاك 40» الفرنسي الذي تراجع نحو 4 في المئة، ثمّ كان الأقلّ تأثّراً «فوتسي 100» البريطاني بخسارته 3 في المئة.