انتهت الحرب الروسية - الغربية في أوكرانيا، قبل أن تبدأ، بغلَبة واضحة لموسكو، فيما بات السؤال الآن يتعلّق باليوم الذي يلي، على مستويات مختلفة. الأكيد أنّ أوكرانيا لن تكون منطلقاً لتهديد روسيا عسكرياً، وفقاً لما أريدَ له أن يتحقّق، عبر محاولة ضمّها إلى حلف «الناتو»، والتي عُدَّت لدى الروس سبباً كافياً ودافعاً للمبادرة إلى الحيلولة دون نجاحها، ولو اقتضى الأمر شنّ حرب. وإذا كان ما تَحقّق مُرضياً بالنسبة إلى موسكو بعد تصعيدها الوضع إلى حافّة الحرب، من دون خوضها، فإنّ ثمّة سؤالاً يُطرح حول ما إذا كانت ستكتفي به أم ستطلب المزيد؟ الواضح أنّ «الانتصار»، بحدوده الحالية، يبدو مُغرياً للقيادة الروسية، ليس من أجل محاكاته في ما يحيط بها من دول وكيانات، ومن بينها ساحات مشبعة بالتهديدات الأميركية، فحسب، بل أيضاً في اتّجاه انتزاع معادلات جديدة من شأنها أن تنقل روسيا إلى موقع أكثر تأثيراً في الحلبة الدولية، وربّما بما يفوق قدراتها الذاتية. ولعلّ هذا السيناريو بالتحديد هو ما يمنع انتهاء الأزمة الأوكرانية إلى الآن؛ إذ إنّ ثمّة اعترافاً ضمنياً أميركياً بأن روسيا نالت ما تريد، لكنّ واشنطن تريد أن لا يكون ذلك منطلقاً لتأسيس معادلة بينية، يمكن سحبها على ساحات أخرى، شائكة بين الجانبين. ومن هنا، يمكن تفسير كلّ هذا الاحتقان والتهديد بالحرب والتوثّب لها، باعتباره يخدم مستويات أخرى من النزاع، تتجاوز الساحة الأوكرانية إلى ما يليها.
تَظهر واشنطن معنيّة بأن يكون «الانتصار» الروسي لمرّة واحدة وأخيرة

وهنا، يتكرّر السؤال الأهمّ والأبرز حالياً على طاولات التقدير حول العالم: هل روسيا معنيّة بتحقيق مزيد من «الإنجازات»؟ إلى الآن، لا إجابة حاسمة، لكن ثمّة احتمالات متعدّدة من بينها اجتياح أوكرانيا جزئياً أو كلّياً، وهو ما سيكون الهدف منه كسْب جولات جديدة بوجه الولايات المتحدة. في المقابل، تَظهر واشنطن معنيّة بأن يكون «الانتصار» الروسي لمرّة واحدة وأخيرة، وأن لا تكون هناك قدرة على استنساخه في جغرافيات أخرى، لا من قِبَل موسكو فقط، بل وأيضاً من قِبَل دول ومنظّمات، قد ترى نفسها قادرة على محاكاة الخطوة الروسية، واتّخاذها نموذجاً لها. والخشية الأميركية في هذا المجال، لا تقتصر على حالة دول في مستوى روسيا أو من يفوقها، كما الصين و إشكاليّتها التايوانية، بل تمتدّ لتشمل دولاً متواضعة القدرات، ستجد لديها محفّزاً لخوض مستوى أعلى من المجازفة، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على المصالح الأميركية، في أكثر من منطقة، ومن بينها منطقة الشرق الأوسط. أمّا الأطراف الأوروبية، فستلفي نفسها في تموضُع دفاعي لا هجومي إزاء روسيا، على خلفية تعذُّر القدرة الأميركية على مواجهة موسكو بما يكفي لردعها، وفق ما أظهره النموذج الأوكراني، وفي هذا أيضاً تحوُّل غير مؤاتٍ للولايات المتحدة.
بالنتيجة، لن تكون أميركا، في مرحلة ما بعد أوكرانيا، في المكانة ذاتها عالمياً، علماً أنّ هذه الأزمة كشفت التراجُع الأميركي أكثر من كونها تسبّبت به، وهو ما من شأنه تصعيد الضغوط على مصالح واشنطن في العالم، على نحو أكثر فاعلية. ومن هنا، ستواجه الولايات المتحدة معضلة غير سهلة، عنوانها تعارض المصالح وتداخُلها في وقت واحد. إذ إن الانشغال بمواجهة روسيا يشوّش على الاهتمام بالتهديد الأكبر المتمثّل في الصين، فيما الانكفاء عن مجابهة الأولى يشجّع الأخيرة على تصعيد تحدّيها لأميركا، عبر اتّخاذ خطوات ربّما كانت لتؤجَّل لو لم يكن المعطى الروسي في أوكرانيا موجوداً؛ والساحتان، بهذا المعنى، مترابطتان. وعليه، فإن حديث البعض عن أن اهتمام واشنطن بالتحدّي الصيني، سيدفعها إلى الامتناع عن مواجهة التوثّب الروسي تجاه كييف، أو إهمال برنامج إيران النووي ونفوذها الإقليمي، أو غير ذلك من القضايا الدولية، يُعدّ حديثاً مجافياً للصحّة في معظم جزئيّاته، وتحديداً في تناوله الدوافع الأميركية.