صحافي غربي: «ما رأيك بالحضارة الغربية؟»
المهاتما غاندي:
«أعتقد أنّها ستكون فكرة حسنة»


إضافة إلى الأبعاد الجيوستراتيجية للأزمة الأوكرانية، التي تؤشّر إلى التحوّل المستمر في موازين القوى الدولية لغير مصلحة المحور الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، فإن مفاعيلها لا تقلّ جسامة عن القناعة السائدة في مجتمعات المركز الإمبريالي المترفة، بأنها ستنعم بالأمن والسلام الدائمَين، ومعهما رغد العيش، بينما فرضت دولها شظفه على قسم وازن من شعوب المعمورة، نتيجة لسياسات السيطرة والعدوان والنهب المعتمدة بحقّها. لحوالى سبعة عقود، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استطاعت بلدان المركز الإمبريالي أن تحيا في داخل حدودها، بمنأى عن الحروب وأهوالها، رغم أنّها شنّت العديد منها في خارجها.
(أ ف ب )

الجديد مع الأزمة الأوكرانية، هو أن شبح الحرب عاد ليدقّ أبواب القارّة العجوز. ولا بدّ هنا من التذكير بأن العمليات العسكرية، أي في حالتنا الراهنة دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، هي المستوى الأعلى من الحرب، وأن حشد أعدادٍ ضخمة من الجنود على الحدود، والقيام بمناورات عسكرية في جوارها لاستعراض القوة، تندرج في إطار الحرب النفسية، يشكّل في الواقع مرحلة أولى من الحرب، مرشّحة للتصاعد إن اقتضى الأمر ذلك. لقد اعتقدت النخَب الغربية الحاكمة، استناداً إلى تجربة سبعة عقود من الحروب والتدخّلات الإمبريالية ضدّ بلدان الجنوب، أنّ بإمكانها الحفاظ على حرمة ديارها حتى عندما تشرع بمحاولات لاحتواء، أي لحصار وخنق، قوى عظمى كروسيا والصين، غير أن الرد الروسي الحالي جاء ليكذّب مثل هذا الاعتقاد. هي تسعى اليوم إلى تعبئة الرأي العام في بلدانها، على قاعدة أن ذلك الرد يهدّد كلّ ما أنجزته «الحضارة» الرأسمالية الغربية من رقي مجتمعي، بعيداً عن «التوحّش» والعنف والقتل، اللذَين يصاحبان الحرب، عبر حملة أيديولوجية - إعلامية يتولّاها نجوم الميديا من «الفلاسفة» والمفكّرين، من أمثال الصهيوني يوفال نوح هراري. الغرب أدار «التوحّش» بعيداً من حدوده، لكنّ انقلاب موازين القوى الدولية يُنذر باحتمال تعدّيه لها في المدى المنظور.
قد يكون إغراء نظرية شاملة، تدّعي تفسير التاريخ البشري بمجمله، وتحديد وجهة تطوّره التي تقتضيها «المصلحة العامة» لشعوب المعمورة، تنسجم في الحقيقة مع المصالح الفعلية للنخب الرأسمالية المعولمة، هو ما يفسّر سرّ رواج كتابات يوفال نوح هراري، والإطراء الذي يحظى به من رموز هذه النخَب، من أمثال بيل غايتس ومارك زوكربيرغ وباراك أوباما. وهو اليوم يردّ التحية بأحسن منها، عبر دقّ ناقوس الخطر لاستنفار مجتمعات الغرب «المتحضّر»، ليس للدفاع عن أوكرانيا فحسب، بل للذود عن أهمّ إنجازات حضاراته، وهي الحفاظ على السلم والأمن والاستقرار في داخل حدوده. يرى هراري، في مقال بعنوان «الوجهة المستقبلية للتاريخ البشري على المحك في أوكرانيا»، على موقع «ذي إيكونوميست»، أن ما حال دون الصدام المباشر بين القوى العظمى، في السنوات الـ70 الماضية، لم يكن الردع النووي المتبادل وحده، بل كذلك التحوّلات التكنولوجية والثقافية والاقتصادية التي شهدتها دول الغرب، ومفاعيلها على مجتمعاته ونخبه الحاكمة. ووفقاً له، فإن التغييرات التي طرأت على بنية الاقتصاد العالمي، الذي كان يعتمد على الموارد المادية، كمناجم الذهب وحقول القمح وآبار النفط، وبات يرتكز أساساً إلى المعرفة، «أضعف من ربحية وجاذبية التوسّع والاحتلال. تحوّل تكتوني آخر تمّ على مستوى الثقافة العالمية… للمرة الأولى في التاريخ، تقود العالم نخب تعتبر الحرب شرّاً قابلاً للتجنّب.
الجديد مع الأزمة الأوكرانية هو أن شبح الحرب عاد ليدقّ أبواب القارّة العجوز

وحتّى أمثال جورج بوش الابن، ودونالد ترامب، كي لا نتحدث عن أنجيلا ميركل، هم نمط من السياسيين يختلفون كثيراً عن أتيلا زعيم الهان، وألاريك قائد القوطيين. هم يصلون إلى السلطة مع أحلامٍ بالإصلاح المحلّي، وليس بالتوسّع الخارجي. وكنتيجة لجميع هذه المتغيّرات، توقفت غالبية الحكومات عن النظر إلى الحرب كوسيلة مقبولة لتعظيم مصالحها…». الفترة الذهبية التي يتناولها هراري، والتي لم تقع فيها حروب بين الغربيين، هي إياها الفترة التي استعرت فيها الحروب على شعوب الجنوب، من فلسطين إلى الجزائر إلى فيتنام، وصولاً إلى أفغانستان والعراق، والتي قُتل فيها الملايين على أيدي من تحرّكهم قيَم التمدُّن والرقي والإنسانية. هو لا يتورّع عن الزعم بأنّ «السكّر أصبح مسبّباً للموت أكثر من البارود»، لكنه لا يذكر عن أية بقعة من العالم يتحدّث. يموت المترفون بالسكّر، وغيره من الأمراض، بينما يحصد البارود «الملوّنين». نُشر هذا المقال من قبل مجلة غربية «رصينة»، رغم ما يتضمنّه من تعامٍ متعمّد وفاضح عن وقائع تاريخية معروفة، يشي باتّساع وتجذّر ظاهرة «العصبية البيضاء» بين نخب الغرب، الناجمة عن الضمور المتسارع لنفوذه على صعيد عالمي. ظنّت تلك النخَب أن بمقدورها المضي بسياسة «إدارة التوحُّش» المتّبعة مع شعوب الجنوب، ولكن تجاه «منافسين استراتيجيين» صاعدين هذه المرة: احتواءٌ، عبر انتشار عسكري في جوارهم هو صنو للحصار، من دون توقُّع ردّ جدّي من قبلهم، نتيجة غطرسة استعمارية معطوفة على خفّة توازي البلاهة لدى صنّاع القرار الغربيين الحاليين. لن يبقى المركز الإمبريالي بمنأى عن توحُّش هو في الأصل من صُنعه.