موسكو | بعدما ملأت الولايات المتحدة الفضاء العالمي، خلال اليومين الماضيَين، بـ «هستيريا» الغزو الروسي لأوكرانيا، عادت لتُخفّض شيئاً من حدّة تلك الحملة الإعلامية، توازياً مع إعادة تنشيط خطوط الاتصالات الدبلوماسية. لكنّ هذه الاتصالات، على كثافتها وتنوّعها، لم يَظهر أنها أتت بجديد على صعيد الجهود الجارية لتهدئة الوضع؛ إذ ظلّ كلّ من الطرفَين متمترساً وراء مواقفه، وسط اعتقاد روسي بأن واشنطن تحاول، من خلال التهويل، انتزاع «نصر دبلوماسي» يمكنها تصريفه داخلياً، من دون أن تقدّم لموسكو أيّ مكسب مقابِل، ومن دون أن تمارس ضغوطاً جدّية على كييف لدفْعها إلى تنفيذ «اتفاقات مينسك»
وصلت الرواية الأميركية بشأن "الهجوم" الروسي على أوكرانيا إلى مداها الأقصى. حدّدت واشنطن المواعيد، لتعود وتتراجع عنها من دون تحديد مواعيد جديدة. كما رسمت المسارات التي ستنطلق منها القوات الروسية "لاحتلال" أوكرانيا، فيما لم تنقصها في ذلك سوى الصور الحيّة، التي لو أُتيح لها لطلَبتها من مخرجي "هوليوود"، لتكتمل عناصر روايتها. ولزيادة الحبكة تشويقاً، نُقلت "عدوى الهلع" إلى أغلب الدول التي طلبت من رعاياها مغادرة أوكرانيا، وتجنُّب السفر إليها في الوقت الحالي. في موسكو، لم يُقرأ كلّ ما تَقدّم إلّا على أنه حالة من "الهستيريا" تسْكن الغرب، تتجلّى في "حملة إعلامية منسّقة غير مسبوقة" ضدّ روسيا، تهدف إلى "تشويه صورة المطالب الروسية العادلة في شأن الضمانات الأمنية" في أوروبا، بينما "الأنغلوساكسونيون يريدون الحرب مهما كان الثمن"، بحسب ما رأت وزارة الخارجية الروسية. وحتى في كييف، لم تجد الرواية الغربية لدى الرئيس فلودومير زيلنسكي، أيّ مصداقية، وفق ما أظهرته مطالبته بتقديم أدلّة قاطعة على مزاعم غزو روسيا لبلاده غداً الثلاثاء.
في ظلّ هذه الأجواء، عاد الحراك الدبلوماسي ليتنشّط أول من أمس (السبت)، مع اتصالات شملت الرئيسَين، الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي جو بايدن، ووزراء الخارجية والدفاع في البلدين، فضلاً عن أخرى جمعت بوتين بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والأخير بكلّ من بايدن والمستشار الألماني والرئيس الأوكراني. إلّا أن تلك الاتصالات لم تَخرج بأيّ جديد قد يهدّئ من "حالة الهستيريا الإعلامية" التي بلغت ذروتها بحسب الكرملين، الذي وصف مباحثات بوتين وبايدن بأنها "بنّاءة وعملية"، مستدركاً بأن الرئيسَين لم يتطرّقا إلى مسألتَي توسّع "الناتو" شرقاً والضمانات الأمنية. لكنّ بوتين اقترح على نظيره الأميركي تصوّرات روسية لحلّ الأزمة الأوكرانية، التي شدّد على ضرورة التوصّل إلى تسوية لها الآن، محذّراً من أن ضخّ السلاح إلى أوكرانيا وضمّها إلى "الناتو" سيؤدّيان إلى "عواقب وخيمة". كما كشف الكرملين أنه أنهى دراسة ردود "الناتو" وواشنطن على مقترحات روسيا للضمانات الأمنية، وسيردّ قريباً عليها.
تتضمّن شروط موسكو لتخفيف حدّة التوتر القائم موافقة كييف على تطبيق «اتفاقات مينسك»


من جهته، ظلّ بايدن يصوّر الأمر وكأنّ الحرب الروسية على أوكرانيا واقعة لا محالة. ولذا، فهو حذّر نظيره الروسي من أن واشنطن وحلفاءها "لن يتوانوا عن الردّ بشكل حازم وسريع"، إن حصل "الغزو" الروسي. وأعلن البيت الأبيض أن بايدن أعرب لبوتين عن استعداد بلاده الثابت للانخراط في الدبلوماسية، بالتنسيق الكامل مع حلفائها وشركائها، و"استعدادها أيضاً لسيناريوات أخرى". ووفقاً لمسؤول أميركي، فإن المكالمة الهاتفية بين الرجلَين لم تُحدث تغييراً جوهرياً في موقف واشنطن تجاه الأزمة الأوكرانية. وما سمعه بايدن من بوتين، كان قد سمعه قبْله بساعات ماكرون، خلال الاتصال الهاتفي مع سيد الكرملين، حيث اعتبر الأخير أن الغرب لا يضغط على كييف لتنفيذ "اتفاقات مينسك"، التي وافق الرئيس الفرنسي، بدوره، على ضرورة المُضيّ قُدُماً فيها للتخفيف من حدّة الأزمة القائمة. وفي هذا السياق تحديداً، تسود قناعة في موسكو، بأن الغرب، وعلى عكس ما يشاع، لا يضغط على زيلنسكي للسير في تلك الاتفاقات، وهو ما بدا واضحاً في الجولة الأخيرة من محادثات المستشارين السياسيين لرؤساء "مجموعة النورماندي" (روسيا، أوكرانيا، ألمانيا وفرنسا) في برلين، والتي فشلت في تحقيق أيّ تقدّم، على عكس الجولة الأولى في باريس، والتي جرى خلالها التوقيع على وثيقة رمزية.
من هنا، ترى موسكو أنه إمّا أن السلطات الأوكرانية قادرة على تحمُّل ضغط شركائها، أو أن هذا الضغط ليس قوياً، أو أنه غير موجود على الإطلاق. كذلك، هي تتّهم كييف بأنها ترفض إجراء اتصالات مباشرة مع السلطات في دونتسك ولوغانسك، ومناقشة ما تتضمّنه "اتفاقات مينسك" من بنود سياسية. وترى أن عدم تطبيق تلك البنود يناسب السلطات الأوكرانية، على اعتبار أن تنفيذها محفوف بمشاكل سياسية محلية خطيرة. وانطلاقاً ممّا تَقدّم، تُشدّد روسيا على ضرورة أن يقدِم الغرب على ممارسة ضغط جدّي على كييف لتطبيق "مينسك"، والامتناع عن تنفيذ أيّ عملية عسكرية في دونباس، إضافة إلى شروط أخرى من ضمنها توقّف دول "الناتو" عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وسحب المستشارين والمدرّبين العسكريين منها، والتخلّي عن أيّ مناورات مشتركة فيها، فضلاً عن الشرط الأهمّ المتمثّل في إبقاء كييف خارج "الناتو"، وإعادتها إلى وضعها الحيادي بعيداً عن التكتّلات، والذي تمّ تكريسه في إعلان سيادة دولة أوكرانيا عام 1990.
وبينما الخطوط الدبلوماسية مشغولة بإيجاد سبل لتهدئة الأزمة ومنع تفجّر الأوضاع، تُواصل واشنطن و"الناتو" اللعب على وتر استفزاز روسيا، عبر إرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، إضافة إلى إرسال مزيد من الجنود الأميركيين إلى دول أوروبا الشرقية. وفي الوقت نفسه، تستمرّ المطالبات لموسكو بسحب جنودها من على الحدود، وهو ما ترفضه الأخيرة، مؤكّدة أن هذا الأمر شأن داخلي، وأن هذه القوات تقوم بتدريباتها داخل الأراضي الروسية. وتعتقد روسيا أنها إذا ما وافقت على ذلك المطلب تحديداً، فهي ستمنح خصومها "نصراً دبلوماسياً" يمكنهم استثماره داخلياً على أنه نجاح في إرضاخها. يقول الشاعر الروسي، تيوتشيف، في إحدى قصائده، إنه "لا يمكن إدراك روسيا بالعقل، بل بالإيمان بها". ربّما يحمل البيت الشعري المتقدّم تلخيصاً مكثّفاً عن "المواجهة" القائمة اليوم بين روسيا والولايات المتحدة و"الناتو"؛ فروسيا الحديثة تؤمن بقدراتها، وبأن زمن التسعينيات الذي كسر من هيبة موسكو عالمياً قد انتهى، في حين أن واشنطن و"الناتو" لم يدركا بالعقل حتى الآن أنهما أمام روسيا جديدة لا تفرّط بمصالحها القومية أبداً.



الإعلام الروسيّ يفكّك الخطاب الغربيّ
أمام سيطرة واشنطن إعلامياً على المشهد الدولي، وتسويقها رواية "الغزو" الروسي لأوكرانيا، واشتغالها على "شيطنة" صورة موسكو في المخيال العالمي، تصدّت وسائل الإعلام الروسية لمَهمّة مواجهة ذلك الخطاب الذي تَصِفه بـ"المُعادي"، إذ حاولت تلك الوسائل تفكيك المزاعم الأميركية حول "الهجوم" الروسي، مُظهرةً استنادها إلى معطيات استخبارية "غير ذات صدقية". كما أعادت التذكير بمسلسل "الهزل" الأميركي الطويل في التعامل مع القضايا العالمية، لناحية ترويج المعطيات الخاطئة بما يتناسب مع مصالح واشنطن، إضافة إلى ازدواجية المعايير الغربية في تطبيق "الديموقراطية" حول العالم (ما حصل في العراق وليبيا كنموذج)، مقابل إقامة علاقات مع أنظمة استبدادية (السعودية مثالاً). إضافة إلى ما تَقدّم، ركّزت الصحافة الروسية على تفنيد الأهداف الأميركية من الحملة على روسيا، وأبرزها استبعاد الغاز الروسي من الأسواق الأوروبية.
كذلك، كانت لوسائل التواصل الاجتماعي حصّة من الصراع الإعلامي، وتحديداً موقع "تيك توك"، الذي اتّهمت الصحافة الروسية الاستخبارات الأميركية بالترويج لأفكار معادية لروسيا وسط روّاده، وخصوصاً المراهقين منهم، فيما تصدّت مجموعة من المستخدمين الروس للردّ على "الافتراءات" الغربية ضدّ بلادهم، عبر فيديوهات توضيحية لما يحصل في بلاد ربّما لا يعرف أغلب المراهقين الأميركيين والغربيين أين تقع على الخريطة.