على مدى أسابيع، أطلق رئيس وزراء العدو، نفتالي بينيت، سلسلة مواقف وتقديرات، جمع فيها بعضاً من معالم المفهوم الأمني الاستراتيجي الإسرائيلي إزاء إيران. إذ أقرّ بأن إسرائيل ومعها جميع حلفاء واشنطن، سيدفعون "ثمناً باهظاً" للاتفاق مع طهران، "وفق الشروط التي تُظهرها المؤشّرات". وشبّه الصراع مع إيران بـ"الحرب الباردة" التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانتهت بانهيار الأخير، في إقرارٍ ضمني بفاعلية قوّة الردع الإيرانية. لكنه شدّد على أنه "في الوقت الذي تشكِّل فيه الجمهورية الإسلامية قوّة إقليمية عظمى، إلّا أنها تعاني من نقاط ضعف ينبغي استغلالها".
تحاول قيادة العدو، بعد إقرارها الصريح بفشل الخيارات والرهانات السابقة، الترويج لاستراتيجية بديلة(أ ف ب )

وعلى رغم تأكيده المتكرّر امتلاك إسرائيل حرّية العمل في مواجهة إيران، مع أو من دون اتفاق، إلّا أنه أوضح أن ذلك لا يعني مهاجمتها بالطائرات. ومن هنا، يتقاطع تخوّفه من "الثمن الباهظ"، مع تقدير الجهات المختصّة في كيان العدو، من خبراء ومراكز أبحاث، لاتّجاهات معادلات القوة، وتأثيرها في الأمن القومي الإسرائيلي. ولكن ما لا ينبغي إغفاله، أن هذه الاتجاهات لم تتبلور إلّا نتيجة تمكُّن إيران من فرض وقائع داخلية وخارجية، دفعت الإدارة الأميركية الجديدة، التي حاولت ابتداءً تثمير استراتيجية "الضغوط القصوى" على طهران، إلى البحث عن بدائل تقطع الطريق على مسارات أكثر خطورة على مصالحها، وعلى الأمن القومي للكيان العبري.
ومن هنا أيضاً، تحاول قيادة العدو، بعد إقرارها الصريح بفشل الخيارات والرهانات السابقة، الترويج لاستراتيجية بديلة، تقوم على أساس نقل المعركة إلى العمق الاستراتيجي لـ"محور المقاومة"، أي إيران، بهدف استنزافها وإشغالها بنفسها وإضعافها. إلّا أن تلك البدائل، لا شيء يضمن أنها لن تؤول إلى النتيجة نفسها التي آلت إليها سابقاتها، والتي يلاحِظ المتأمّل فيها، منذ قيام النظام الحالي في إيران، أن الفشل وسوء التقدير كانا سمتها الأبرز. ولعلّ واحداً من أوّل مؤشّرات ذلك، يمكن رصده في "تقدير الوضع" الذي قدّمه السفير الإسرائيلي في طهران، أوري لوبراني، في حزيران 1978، حين رأى أن سقوط نظام الملَكية سيستغرق نحو خمس سنوات، لتنتصر الثورة بعد الحديث المذكور بنحو ثمانية أشهر (المصدر: نصّ الوثيقة الرسمية باللغة العبرية / أرشيف الدولة).
هذا القصور في قراءة الواقع سرعان ما تَكرّر بعد نحو عامين، في تقدير الاستخبارات العسكرية "أمان"، والذي توقّع سقوط النظام الجديد خلال أسابيع معدودة، بعد شنّ النظام العراقي حربه على إيران ("مركز بيغن ــــ السادات للدراسات الاستراتيجية" / يهوشاع تييخر/ 16/5/2017). ولكن، يمكن القول، هنا، إن العزاء الوحيد لإسرائيل، هو أن سوء التقدير شمل أيضاً حليفتها الولايات المتحدة، التي قال رئيسها جيمي كارتر، خلال زيارته إيران (31/12/1977)، قبل نحو أسبوع من اندلاع الثورة، إن "إيران جزيرة استقرار في واحدة من أكثر المناطق اضطراباً في العالم" ("حرب الضرورة" / ريتشارد هاس، ص 35). ولم ينتهِ الأمر عند ما تَقدّم، بل تكرّر إخفاق الجهات الاستخبارية الإسرائيلية والأميركية في استشرافها المستقبل، طوال العقود التي تلت، وصولاً إلى الرهان "المتفائل جدّاً" على الحرب الاقتصادية "القصوى" التي شنّتها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، والآمال التي عُقدت على تداعيات اغتيال قائد "قوّة القدس" في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني.
تُدرك قيادة العدو أنّها تمرّ بمرحلة انتقالية تفرض عليها خيارات اضطرارية


وبالتدقيق في أسباب تلك الإخفاقات، يتّضح أنها لم تكن بفعل نقصٍ في الخبرة والإمكانيات، وإنّما نتيجة قصور في فهم الآخر، أو بتعبير الجهات المهنية في الاستخبارات، "إسقاط مفاهيمنا على الآخر"، وتوقُّع سلوكه في ضوء هذه المفاهيم. ومن هنا، يتّضح أن ثمّة مشكلة بنيوية في منظومة التقدير السياسي والاستخباري الإسرائيلي، تدفع إلى الاعتقاد بأن "ما كان أمس هو ما سيكون لاحقاً"، في ما يتعلّق بنتائج الخيارات التي تروّج لها تل أبيب، على لسان بينيت، الذي يحاول، أيضاً، تقليد جانبٍ من الاستراتيجية الإيرانية، التي نجحت، بحسب تعبيره، في إنتاج طوقٍ صاروخي وعسكري حول إسرائيل. كذلك، يستند تقدير فشل الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة ــــ القديمة، من ضمن عوامل أخرى، إلى واقع أن إيران اليوم تختلف بشكل كبير عمّا كانت عليه قبل عقد، نتيجة الوتيرة المتسارِعة في تطوّر قدراتها، وهو ما أشار إليه بشكل صريح وتفصيلي، رئيس أركان الجيش السابق، غادي إيزنكوت، في مقابلة مع صحيفة "معاريف" (28/01/2022).
يُضاف إلى ما تَقدّم أن اتّجاه المتغيّرات الإقليمية والدولية لا يبدو في مصلحة إسرائيل، وتحديداً لناحية استمرار تعاظُم معادلات القوة لمصلحة "محور المقاومة"، بدءاً من "حزب الله" في لبنان، وصولاً إلى اليمن. وفي هذا الإطار، تكشف مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية أن هذه المتغيّرات تحضر بقوّة في خلفيات تقديرات مواقفه، التي دعا فيها إلى قراءة خريطة الشرق الأوسط جيداً، في ضوء تضاؤل اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، وتركيزها حالياً على الحدود الروسية ــــ الأوكرانية، وعلى صراعها الاستراتيجي مع الصين. كما حذّر من أن "تملأ القوى المعادية لإسرائيل الفراغ الذي سينتج من المتغيّرات" المذكورة. وممّا يمثّل معضلة إضافية بالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، هو أنه ليس ثمّة اتفاق مع الولايات المتحدة على كيفية مواجهة إيران، سواء أُحييت صفقة عام 2015 أو لا، بحسب تأكيد مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيالا حولاتا.
بالنتيجة، يمكن القول إن قيادة العدو، بشقَّيها السياسي والعسكري، تدرك عميقاً خطورة ما ينتظرها في بيئتها الإقليمية، انطلاقاً من أن تراجع الحضور الأميركي في المنطقة سوف ينعكس سلباً على الأمن القومي للكيان العبري، وعلى قوّة ردعه الإقليمي. ولذا تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى تبنّي النهج الذي ترى أنه قد يحدّ من تسارع المخاطر، ما يعني أنها إزاء خيارات اضطرارية في مرحلة انتقالية، وليست خيارات "حُرّة" يُراد منها تحقيق الأمن الاستراتيجي بأقلّ كلفة. ولعلّ ذلك هو ما عناه حولاتا بقوله "(إنّنا) نتوقّع عاماً من التحوّلات، سواء كانت هناك عودة إلى الاتفاق النووي أو لا... سيُلزمنا ذلك التصرّف بطريقة مختلفة عن الماضي... علينا الاستعداد لكلّ السيناريوات".