حالة ذهول، كتلك التي تلي عادةً الصدمات، تُخيّم على القطاع الأعظم من النُخب الغربية، بعد الإعلان الصيني - الروسي المشترك. وعلى الرغم من أن شخصيات بارزة من بين هذه النخب، كمسؤولين سابقين وخبراء معتبَرين، كانت قد حذّرت في مناسبات عدّة، ومنذ مدّة ليست بقريبة، من مغبّة "دفع روسيا إلى أحضان الصين"، بعد تصنيف الثانية "تهديداً استراتيجياً" للهيمنة الأميركية والغربية على العالم، إلّا أن هذه التحذيرات قوبلت بتجاهل كامل في أفضل الأحوال. وما زال البعض حتى اللحظة، كغريغ سينغلتون، كبير الباحثين حول آسيا في "معهد الدفاع عن الديموقراطية"، أو مارك جوليين، خبير الشؤون الصينية في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية"، يفضّل اعتبار الإعلان المذكور "تقاطعاً ظرفياً" بين البلدين، بسبب خلافاتهما مع الولايات المتحدة، لا يرقى إلى مستوى التحالف الطويل الأمد نتيجة لمخاوف روسيا من أن تتعرّض "للابتلاع" من قِبَل عملاق اقتصادي وديموغرافي كالصين. التركيز على وجود تناقضات في مصالح الدولتَين، وهي قائمة بالفعل، هو السبيل الأمثل للبقاء في حالة الإنكار التي تتبع الصدمات، والتعامي عن كتلة المصالح الضخمة المشتركة التي أفضت إلى إجهار شي جين بينغ وفلاديمير بوتين بصداقة "بلا حدود" بين بلدَيهما. التمترس خلف الأيديولوجيا، والذي يعكس درجة من الإرباك والضياع ناجمة هي الأخرى عن الصدمة، يسم ردود الفعل الغربية الأخرى حيال الحدث الصيني - الروسي. جوزيف بوريل، المفوض الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، والذي سبق أن دعا إلى التعاون مع الصين بدلاً من استعدائها، عاد ليتبنّى المعزوفة الأيديولوجية عن تحالف الأنظمة الشمولية ضدّ الديموقراطية. والمتابع لبقيّة التحليلات والتعليقات الغربية سيجد تكراراً بمستويات مختلفة لهذه المعزوفة، لكن مع الإقرار بأن ما جرى هو زلزال جيوسياسي، لا أقلّ، يزعزع أسس النظام الدولي الذي ساد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وستصيب موجاته الارتدادية أرجاء المعمورة.

زلزال جيوسياسي
حشد عسكري متزايد ونشر لمنظومات السلاح المتطوّر في جوار روسيا والصين، وإنشاء لأحلاف عسكرية وسياسية ضدّ الأخيرة، كـ"أوكوس" و"كواد" على سبيل المثال لا الحصر، وحملات تهويل أيديولوجية - إعلامية لا تتوقّف حول الخطر الذي تمثّله الدولتان على استقرار مجتمعات الغرب وأمنها ومصالحها، مصحوبة بمساعٍ علنية للعبث بالأوضاع الداخلية للبلدين بحجّة الدفاع عن القيم الديموقراطية وحقوق الأقليات... كلّها من المعالم الرئيسة لسياسات الولايات المتحدة وحلفائها تجاه موسكو وبكين. في الواقع، شهدنا محاولات لتطبيق استراتيجية الاحتواء التي اعتُمدت في مقابل الاتحاد السوفياتي في الماضي، ضدّ البلدين، ولكن في سياق دولي مختلف جذرياً. ولا ريب في أن الدافع الأوّل للنقلة النوعية في العلاقات الصينية - الروسية، من التقاطع والتنسيق إلى الشراكة، وصولاً إلى "الصداقة بلا حدود"، هو التصدّي لهذه السياسات المعادية وإفشالها. غير أن تجلّي التراجع الكبير في قدرات الولايات المتحدة وبقيّة دول الغرب، السياسية والاقتصادية والعسكرية، في خضمّ هذه المواجهة الاستراتيجية المديدة، عزّز قناعة القيادتَين الصينية والروسية بإمكانية الانتقال من الدفاع إلى الهجوم الإيجابي، عبر الإعلان عن رؤيتهما المشتركة لإعادة هندسة النظام الدولي على أسس مخالفة لتلك التي صاغها الغرب في أوج هيمنته العالمية.
الإشكالية الرئيسة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن هذا الزلزال الجيوسياسي وقع في ظلّ انحسار تدريجي لهيمنتها


تنقل روبين رايت، في مقال بعنوان "روسيا والصين تكشفان عن حلف ضدّ الولايات المتحدة والغرب" في أسبوعية "نيويوركر"، عن روبرت دالي، مدير «معهد كيسنجر»، قوله إن الإعلان الصيني - الروسي، بخلاف ما سبقه من إعلانات مشتركة، يشكّل "دعوة للوقوف صفّاً واحداً في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، أيديولوجياً وعسكرياً، وسيُنظر له في المستقبل على أنه مثّل بداية للحرب الباردة الثانية. ويأتي وضوح نصّه وتوقيته، مع تصاعد التوتر مع روسيا على حدود أوروبا ومع الصين حول تايوان، ليوفّر للمؤرّخين الحدث التأسيسي الذي كثيراً ما يركّزون عليه في أبحاثهم". المفردات المختارة من قِبَل المحلّلين الغربيين لتوصيف الحدث، واستعارة مصطلحات خاصة بالجيولوجيا، كـ"الصفائح التكتونية" واصطدامها، تشي بإدراكهم كونه منعطفاً في مسار العلاقات الدولية وفي موازين القوى التي حكمتها. فهذا فردريك كامب، مدير "المجلس الأطلسي"، في مقالٍ على موقع هذه المؤسسة، يَعتبر أن "الإعلان المشترك هو بمثابة تحوُّل تكتوني في الوضع العالمي، يتطلّب تخطيطاً طويل الأمد، وتعاوناً وإبداعاً من قِبَل واشنطن وحلفائها. فالتقارب المتعاظم بين روسيا والصين زاد من مكانتهما، في ظلّ قناعة قيادتَيهما بأنهما أمام فرصة تاريخية، مع وهن الديموقراطيات والانقسام السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، وتَوفُّر تكنولوجيا جديدة تُضاعف قدرتهما على مراقبة مجتمعاتهما والتحكّم بها… ومن دون تصدٍّ حازم ومستمرّ من قِبَل الديموقراطيات، ينبغي توقّع تصعيد الهجوم الروسي - الصيني". من المرجّح أن تعمد الولايات المتحدة، والحال هذه، إلى محاولة بناء تحالف أوسع لمجابهة روسيا والصين، وتمدّد نفوذهما في مختلف بقاع العالم، بما فيه إقليمنا العربي - الإسلامي.

الموجات الارتدادية
الإشكالية الرئيسة بالنسبة للولايات المتحدة هي أن هذا الزلزال الجيوسياسي وقع في ظلّ انحسار تدريجي، ولكن مستمرّ، لهيمنتها على بقاعٍ كانت تُصنّفها "حديقة خلفية" كأميركا اللاتينية، أو "منطقة مصالح وطنية حيوية"، أي دائرة نفوذ حصري أميركي كالشرق الأوسط والخليج. الواقع اليوم، هو أن الصين تتّجه لأن تكون شريكاً تجارياً واقتصادياً أساسياً مع عدد كبير من بلدان هذه المناطق، بما فيها تلك الحليفة للولايات المتحدة، وأن لروسيا أيضاً شراكات متنامية، خاصةً في الميدان العسكري والنووي، مع البلدان المذكورة. تستطيع موسكو، مثلاً، أن توظّف علاقاتها التاريخية مع الهند وفيتنام للتقريب بينهما وبين الصين، وإفقاد الولايات المتحدة ركيزتَين مهمّتَين لاستراتيجية التطويق التي تعتمدها ضدّ الأخيرة. كما أن روسيا والصين قادرتان على التوسّط لتخفيض التوتر، والتوصّل إلى تسوية بين إيران ودول الخليج بحُكم علاقاتهما الجيّدة بهذين الطرفين، وهو ما سيسمح للعملاقَين المتحالفَين بتحقيق المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. والأمر نفسه ينسحب على أميركا اللاتينية، حيث أصبح لحكومات "المدّ الوردي" ظهير دولي روسي - صيني أقوى من السابق، يعزّز من إمكانية صمودها في مواجهة الضغوط والمؤامرات الأميركية. ستشهد السنوات المقبلة استعاراً للمواجهة بين محور غربي منحدر، ومحور صيني - روسي صاعد، ما يفتح أمام شعوب الجنوب وحكوماتها وقواها الوطنية آفاقاً إيجابية لتحقيق أهدافها في الاستقلال والتقدّم والتنمية والعدالة الاجتماعية.