موسكو | وُضع الحجرُ الأساسُ الحديثُ للعلاقات الروسية - الصينية في 5 آذار 1992، عندما جرى التوقيع على اتفاقية العلاقات التجارية والاقتصادية، والتي شكّلت الأساس القانوني للتعاون بين البلدين. و ما بين عامَي 1992 و1999، وقّع الجانبان على حوالى 100 وثيقة مختلفة تتناول بالتفصيل الصلات الاقتصادية، قبل أن تشهد بداية الألفية الثانية نموّاً واضحاً في تلك العلاقات، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين عامَي 2000 و2009 إلى أكثر من 55.9 مليار دولار أميركي، ووصل مع نهاية 2021 إلى 146.88 مليار دولار في ما مثّل رقماً قياسياً، بزيادة قدرها 35.8% مقارنة بعام 2020. وتُعدّ الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، سواءً من حيث الصادرات أو الواردات، وهذا ما يُعدّ دليلاً إضافياً على أهمية التعاون لكلتا الدولتين.وفي القمة الأخيرة بين الرئيسَين، الصيني شي جين بينغ، والروسي فلاديمير بوتين، وضع الأوّل هدفاً متمثّلاً في زيادة حجم التبادل التجاري إلى 250 مليار دولار سنوياً، وهو ما يصبو إليه الكرملين أيضاً، ويَعدّه قابلاً للتحقيق، الأمر الذي عبّر عنه بوتين بقوله إن «البلدين يسيران قُدُماً على الطريق الصحيح». وعلى رغم أن الميزان التجاري البَيني مائل لمصلحة الصين (تبلغ الصادرات الصينية إلى روسيا نحو 72.86 مليار دولار، مقابل الصادرات الروسية إلى الصين بنحو 68.02 مليار دولار)، إلّا أن ذلك لا يشكّل أزمة بالنسبة إلى موسكو، التي ترى أن العلاقات مع بكين ساهمت في رفد اقتصادها باحتياطات نقدية مهمّة، في إطار سعيها لرفع قيمة موجوداتها من العملات الدولية، والتي وصلت في نهاية الشهر الماضي إلى حوالى 640 مليار دولار.
وبالإضافة إلى تطوير التعاون في قطاعات مثل التجارة الإلكترونية والتعدين والزراعة والترفيه والبناء (محطّات مترو موسكو وتطوير البنية التحتية للأراضي)، تُواصل الصين وروسيا تعزيز ارتباطهما في مجال الصناعات الاستراتيجية. وفي هذا الجانب، كشف بوتين أن «محفظة اللجنة الروسية - الصينية الحكومية الدولية للتعاون الاستثماري تشمل 65 مشروعاً، تزيد قيمتها على 120 مليار دولار أميركي». ولعلّ واحداً من أهمّ تلك القطاعات، قطاع الطاقة وصناعة النفط والغاز، حيث تمتلك بكين حصصاً في مشاريع استراتيجية مثل "Yamal LNG" في سيبيريا.
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 146 مليار دولار في عام 2021

ويمثّل الوقود ومنتجات الطاقة أكثر من 71% من الصادرات الروسية إلى الصين، لتُشكّل روسيا بذلك المورد الرئيس للنفط بالنسبة إلى الأخيرة، بعد السعودية. وعلى رغم انخفاض إمدادات النفط الروسية إلى الجانب الصيني في عام 2021 بنحو 6.2% من الناحية المادية، إلّا أن صادرات الوقود زادت بنسبة 41% من حيث القيمة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، وبلغت 36 مليار دولار. وفي إطار توثيق هذا التعاون، وقّع البلدان، أخيراً، عقوداً لتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي، إضافة إلى توريد 100 مليون طن من النفط إلى الصين عبر كازاخستان، على مدى 10 سنوات. كما تبحث الدولتان مدّ أنبوب غاز عبر منغوليا، لزيادة تدفّق الغاز الروسي إلى الأراضي الصينية. وتريد موسكو زيادة حصتها في سوق الطاقة الصينية وخصوصاً في قطاع الغاز، إلّا أنها تلْقى منافسة من تركمانستان التي بلغ حجم صادراتها إلى بكين نحو 34 مليار متر مكعب في عام 2021، مقابل 15 مليار متر مكعّب روسي. لكنّ بكين تتطلّع، بحسب خبراء، إلى مدّ أنابيب جديدة مع موسكو، لعدّة أسباب من بينها ضمان وصول هذه المادّة الحيوية من دون انقطاع، فضلاً عن أن تركمانستان تقع في منطقة محفوفة بالمخاطر، ومهدَّدة بأن تنفجر في أيّ لحظة، بحسب خبراء الطاقة الروس.
مجال آخر شهد تطوّراً بين موسكو وبكين، تمثّل في الطاقة النووية، حيث كسر الجانبان كلّ المحاذير الأمنية والسرية التي تُرافق بناء هذه المنشآت، لتشارك روسيا عبر شركة «روساتوم» في تطوير محطّات نووية صينية. أمّا من ناحية الصين، فتُشارك بكين في الاستثمارات في قطاعات مربحة، وخصوصاً في مجال النقل، وتحديداً في مشروع السكك الحديدية العالية السرعة بين موسكو وكازان، إضافة إلى العمل على إنشاء جزء من خطّ سكك حديد فائق السرعة بين موسكو وبكين. كذلك، تستثمر الصين في قطاع المعادن الروسي، في حين تُطوّر موسكو قطاع الألمنيوم لدى الجانب الصيني. يبْقى أنه في سوق المال والعملات، وصل البلدان إلى مستوى متطوّر، تجسّد في التعامل بالعملات الوطنية، ولهذا الغرض، جرى افتتاح بنك في الصين يُجري عملياته باليوان والروبل، فيما وقّع البلدان اتفاقية لتبادل العملات بينهما، بما يسمح بالحق في الوصول إلى السيولة، وتجاوز عمليات الصرف.
وعلى رغم ما تَقدّم، تظلّ وجهات نظر البلدَين مختلفة في مجال الاستثمار؛ ففيما يؤكد بوتين أن «أحد الأهداف الاستراتيجية لروسيا يتمثّل في تسريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية لسيبيريا والشرق الأقصى الروسي»، لا يرى المستثمرون الصينيون أن هذه المناطق تمثل أولوية لهم، مقارنةً بموسكو وسان بطرسبورغ ومدن روسية أخرى في الغرب، إضافة إلى نظرتهم السلبية إلى مناخ الاستثمار في روسيا والبيروقراطية الزائدة هناك. كذلك، تَبرز المصالح القومية لكلّ من روسيا والصين، والتي تُنذر بخلافات بينهما، بحسب ما يقول أليكسي ماسلوف، مدير «معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية» في جامعة موسكو الحكومية. وممّا يدعم هذا الاحتمال ظهور تباين أخيراً في منطقة آسيا الوسطى، والتي لطالما اعتُبرت «حديقة خلفية» لروسيا، حيث تخشى موسكو منافسة قوية في المجال الاقتصادي من بكين، صاحبة الإمكانات الضخمة. وعلى رغم ما تَقدّم، لا يخشى ماسلوف على مستقبل العلاقات بين الدولتَين، طالما أن قادتهما يظهرون القدرة على «تجاوز الاعتبارات الانتهازية من أجل الأهداف العالمية».
بناءً على كلّ ذلك، يمكن القول إن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين تنبني على قاعدة «رابح - رابح»، وهو ما سيكون له أثر مهمّ في مواجهتهما مع الولايات المتحدة.