يزور الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كييف، الأربعاء المقبل، في بداية جولة تستهدف التوسّط بين أوكرانيا وروسيا، في خضمّ التوتّر العالي المستوى بين الأخيرة والغرب. وتأتي هذه الوساطة بعدما تمّ التمهيد لها على نحْو يضْمن عدم تعرُّض المصالح التركية للضرر من أيّ طرف، بل وتحويل الأزمة الأوكرانية إلى فرصة لتعزيز مكانة تركيا في عالم يتعمّق تشظّيه بين معسكر أميركا وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وفي هذا السياق، رأى الجنرال المتقاعد والخبير الاستراتيجي، نعيم بابور أوغلو، أنه من الخطأ أن تنحاز تركيا، بشكل كامل، إلى أحد الطرفَين في أوكرانيا. وفي حديث تلفزيوني نقلته صحيفة «ميللييات»، اعتبر أن على بلاده أن «تقف دائماً إلى جانب وحدة الأراضي الأوكرانية». وإذ تمنّى أن لا تلجأ روسيا إلى أيّ عمل عسكري واحتلالي ضدّ جارتها، فقد حذّر من أن «مثل هذا التصرّف لن يكون في صالح روسيا، ولا المنطقة». وشدّد على أنه «يجب على تركيا أن تلجأ إلى مبادرة لمنع حدوث أيّ صدام عسكري»، مستدرِكاً بأن «على الغرب أيضاً أن يتفهّم الهواجس الأمنية الروسية». وعن قول إردوغان إن تركيا جزء من «حلف شمال الأطلسي»، وستقوم بواجباتها تجاهه، أشار بابور أوغلو إلى أن «مثل هذا التصريح، من جانب رئيس دولة عضو في الحلف، يجب ألّا يكون مفاجئاً»، مضيفاً في الوقت نفسه أن «لتركيا تعاوناً مهمّاً ومصالح وطنية مع روسيا في سوريا وليبيا والقوقاز والبحر الأسود»، وبالتالي فإن «انخراطها بشكل كامل مع حلف شمال الأطلسي في موقف ضدّ روسيا، يتعارض مع مصالحها الوطنية». لكنّ بابور أوغلو أعرب عن اعتقاده بأن «تركيا ليست في وارد التموضُع في جبهة ضدّ روسيا»، داعياً أنقرة إلى أن تحْذُو حذْو ألمانيا التي هي «عضو في حلف شمال الأطلسي، ولم تقدّم الدعم لأوكرانيا». وفي صحيفة «يني شفق»، تساءل محمد آجيد عمّا إذا كان يمكن للنار الأوكرانية أن تمتدّ إلى تركيا. واعتبر الكاتب أن «المشكلة ليست في أوكرانيا، واحتلال جزء منها، وهذا لن يحصل، بل الوضع في البحر الأسود، ومن ذلك إعلان روسيا إدخال عشرين سفينة حربية إلى البحر الأسود». وفي هذا السياق، حذّر آجيد من أيّ حرب في هذه المنطقة، إذ ستَجلب لتركيا خسائر جسيمة. كذلك، حذّر من التحريض الفرنسي لليونان في بحر إيجه ضدّ تركيا، معتبراً أن «على أنقرة أن تكون أكثر يقظة من أيّ وقت مضى». وفي الصحيفة نفسها، أشار محمد عاكف صويصال، إلى أن «ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا لم يكن سوى مقدّمة للتوتّر الحالي ولغزوات جديدة»، ونقَل تحذيرات الاتحاد الأوروبي من أن تهديد أوكرانيا هو تهديد لأوروبا، خصوصاً مع تصاعُد أسعار النفط لتصل قريباً، برأيه، إلى ثلاثة أرقام. ولفت صويصال إلى العقوبة التي يُتداول بشأنها في الاتحاد الأوروبي، وهي شطب روسيا من نظام «سويفت» للتحويلات المالية، مضيفاً أن «موسكو ردّت سريعاً على هذا التهديد بالقول إنها ستُواجهه بحرمان أوروبا من النفط والغاز، كما بإقامة نظام مصرفي بديل». ومن هنا، خلص إلى التنبيه إلى أن «كلّ هذه التهديدات، ولا سيما ارتفاع أسعار الطاقة، تُضعف الاقتصاد التركي، كما تُضعف مجالات التعاوُن مع روسيا، ولا سيما العسكري».
لعلّ ما يشجّع أنقرة على الوساطة ارتفاع نسبة الأتراك الذين يفضّلون التعاون مع روسيا والصين


أمّا نوري تشولاق أوغلو، فكتب في موقعه عن «الغيوم السوداء» التي تتلبّد إلى الشمال من تركيا، معتبراً أن «أزمة كوبا في الستينيات تتكرّر، اليوم، في وسط أوروبا»، مضيفاً أن «تركيا تجد نفسها في الوسط، وتتعرّض لضغوط لتختار طرفاً من الطرفين». وإذ لفت إلى أن أنقرة تبدو في موقع الراغب في الوساطة، فقد نقل عن رئيس مجلس السياسات الخارجية والدفاع الروسي، فيودور لوكيانوف، سخريته من إردوغان، بقوله «إنه سوبر ناشط. بل هيبر ناشط... يريد أن يكون في كلّ مكان. لكنّه في الوقت نفسه هو أحد عوامل التوتير، الذي يبيع السلاح إلى أوكرانيا». ولهذا السبب، رأى الكاتب أن «الحديث عن دورٍ تركي وسيط ليس واقعياً كثيراً»، مستدرِكاً بأنه «إلى جانب الانشغال بالأزمات والاضطرابات في بلدنا، من المفيد رفع الرأس والنظر قليلاً إلى الشمال ومتابعة التطوّرات هناك عن كثب، حيث تتلبّد غيومٌ أكثر سوداوية من غيوم العاصفة المناخية التي تهبّ على تركيا».
ولعلّ من بين العوامل التي تشجّع أنقرة على التوسُّط في الأزمة الأوكرانية، استطلاعات الرأي التي تُظهر أن نسبة الذين يفضّلون التعاون مع روسيا والصين، تتقدّم على أولئك الذين يؤْثرون التعاون مع الغرب والولايات المتحدة، وهو ما تضعه السلطات في حسبانها، خصوصاً أن الغرب أخرج تركيا من مشروع إنتاج طائرات «أف 35»، ردّاً على صفقة «أس 400». وفي هذا السياق، اعتبر سادات أرغين، في صحيفة حرييات، أن «الدعم الأميركي للقوات الكردية في سوريا، ودعم الاتحاد الأوروبي لقبرص الجنوبية واليونان، عوامل مؤثّرة في اتخاذ الحكومة لقراراتها تجاه مشكلات المنطقة، ومنها أوكرانيا». ولكن على رغم ذلك، فقد أشار الكاتب إلى أن «السفير الأميركي الجديد في أنقرة، جيف فليك، الذي قدّم أوراق اعتماده، الأربعاء الماضي، إلى الرئيس التركي، يحاول أن يبثّ مناخاً جديداً إيجابياً في العلاقة مع أنقرة». وفي مقالة لاحقة، رأى سادات أرغين أن «تركيا حليفٌ لا يمكن التخلّي عنه، وهي ملتزمة بقوة مع حلف شمال الأطلسي، وشريكٌ مهمّ في منطقة تشهد تغييرات متواصلة». وكان السفير الجديد قد تحدّث عن قوّة العلاقات الاقتصادية بين البلدَين، حيث تعمل 2000 شركة أميركية في تركيا، التي تقع الولايات المتحدة في المركز الثاني كوُجهة للصادرات الخارجة منها. كما لم يُهمل فليك الحديث عن رغبته الجامحة، هو وزوجته، في زيارة إسطنبول وأضنة و«تذوّق الأطباق الحارّة» فيهما.