اعتادت إسرائيل التأكيد في كلّ عام، عبر تقارير رسمية وتقديرات معاهد الأبحاث وبأقلام خبراء ومسؤولين، على مكانتها الاستراتيجية الرائدة في المنطقة، وعلى تَمتّعها بالسِّمات التي تجعل منها دولة عُظمى إقليمية، بالاستناد إلى قدراتها العسكرية والتكنولوجية والتدميرية، وإلى قوّة اقتصادها، إضافة إلى موقعها الخاص في الاستراتيجية الأميركية، والدعم الخاص الذي تتلقّاه على المستويات كافّة من المعسكر الغربي (وآخرها صفقة الغواصات المتطوّرة مع ألمانيا)، فضلاً عن اتفاقيات التطبيع التي تَجمعها بمصر والأردن، وحديثاً الإمارات والبحرين والسودان. هذه العناصر، بمعظمها، من غير المتوقّع أن تتبدّل في وقت قريب، كونها حصيلة سياقات عُمرها عشرات السنوات؛ فمنذ اللحظة الأولى التي تأسّس فيها هذا الكيان، اتّكأ على تفوّق نوعي ذاتي على عدوّه الفلسطيني والعربي، كوْنَ مُؤسِّسيه وفدوا إلى فلسطين لاستعمارها من أوروبا التي تتمتّع بالتطوّر العلمي والتكنولوجي، وكانوا يحظون بالدعم البريطاني والفرنسي، ولاحقاً الأميركي، وهذا ما سيتواصل في اتّجاه تصاعدي، لأكثر من سبب ذاتي وموضوعي، داخلي وخارجي. على أن ما تَقدّم ليس إلّا جزءاً من المشهد، والاقتصار عليه يُبقي الصورة ناقصة بل ومشوّهة، إذ بالرغم من تَعدّد المناهج في قياس قوّة دولة معيّنة، إلّا أن المعيار الثابت في ذلك، هو ما تُحقّقه الدولة من نتائج، وليس الركون حصراً إلى الحسابات الكمّية التي تركز على عدد الصواريخ والدبّابات والطائرات وغيرها. ولذا، لا بدّ من الأخذ في الحسبان تطوّر قوّة الخصوم، وعناصر الضعف على الضفّتَين المتقابلتَين، لاستشراف الآفاق المستقبلية. ومن هنا، يصبح مفهوماً وصْف مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، مئير بن شبات (2017 – 2021)، الوضع الاستراتيجي لإسرائيل بـ«الهشّ»، على رغم كونه جيّداً. وهي هشاشة تُعزى، بحسب بن شبات، إلى العدد الكبير «من القضايا الحسّاسة والمترابطة في ما بينها والتداعيات الواسعة النطاق لكلّ واحدة منها، وعلى رأسها المسألة النووية الإيرانية». وعلى الخلفية نفسها أيضاً، يتّضح تحذير رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، من أن «الوضع الاستراتيجي الإسرائيلي يتّجه نحو الأسوأ»، وتنبيه رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة لـ«الكنيست»، رام بن باراك، إلى أن «إسرائيل تُواجه تحدّيات استراتيجية لم يسبق أن واجهتها منذ عام 1948».
خصوصية هذه التقديرات لا تنبع فقط من الخبرة التي يتمتّع بها أصحابها، بل أيضاً من كونها تستند إلى وقائع قائمة وأخرى في طَوْر التشكّل، وعلى رأسها، بحسب تقدير «معهد أبحاث الأمن القومي» لعام 2022، «التحدّي الخارجي الأخطر» الذي تُواجهه إسرائيل، والمتمثّل في إيران، سواءً في «سعيها إلى امتلاك قدرة نووية أو في مخطّطها الإقليمي، الذي يشمل من بين جملة أمور إنتاج تهديد ناري محيط بإسرائيل، خاصة في ما يتعلّق بالدفْع بمشروع لإنتاج صواريخ دقيقة لمصلحة حزب الله في لبنان». والمشكلة الأكبر في ذلك، بحسب المعهد، هو أن «هناك صعوبة بنيوية في أن تتمكّن إسرائيل وحدَها من التعامل مع مجمل التحدّيات»، الأمر الذي يفرض «حاجة متزايدة إلى تعميق التنسيق والعلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، سواءً تَحقّق أو لم يتَحقّق اتفاق في الموضوع النووي».
هناك صعوبة بنيوية في أن تتمكّن إسرائيل وحدَها من التعامل مع مجمل التحدّيات


يَحضر، في هذا السياق كذلك، التحدّي التكنولوجي الذي أخذ يتسارع في السنوات الأخيرة، نتيجة استمرار التطوّر على هذا الصعيد في إيران، التي بحسب قائد جبهتها في جيش العدو (رئيس شعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة)، اللواء طال كالمان، «لا تُنتج لنفسها فقط. بل هي تزوّد حلفاءها... في سوريا ولبنان وربّما في غزة لاحقاً»، على اعتبار أن إيصال هذه القدرات إلى غزة والضفة يحول دونَه حزامٌ أمني تتولّاه أنظمة تَعقد «معاهدات سلام» مع إسرائيل. وفي الإطار نفسه، يحذّر الرئيس السابق لـ«معهد أبحاث الأمن القومي»، اللواء عاموس يادلين، من أن «حزب الله يواصل بناء قدرات عسكرية متطوّرة بالاستناد إلى تكنولوجيا كانت في السابق بحوزة إسرائيل فقط»، فيما يفرد التقدير الاستراتيجي السنوي للمعهد فصْلاً لمناقشة التحدّي التكنولوجي، معتبراً أن إسرائيل «مهدَّدة بالتقنيات المتطوّرة التي تصل إلى أعدائها من دول وغير دول، بما في ذلك مجموعة متنوّعة من الطائرات بدون طيار التي تَصاعد استخدامها في الشرق الأوسط في العام الماضي». ويضيف التقدير أنه «في الوقت الذي تعاني فيه الدول المجاورة لإسرائيل من التخلّف على مستوى التطوّر التكنولوجي المستقلّ، الذي يشكّل تهديداً حقيقياً، فإن إيران - على الرغم من العقوبات ووضعها الاقتصادي الصعب - تستثمر في البحث والتطوير، وفي العام الماضي كانت معظم استثماراتها الدفاعية في المجال الجوّي»، متوقّعاً أن «يستمرّ هذا الاتجاه بل ويتصاعد»، ومنبّهاً إلى إمكانية أن «تنجح إيران في تطوير وتصدير تقنيات التخفّي (لا تلتقطها الرادارات)، لتنضمّ إلى التقنيات الدقيقة التي يحاول حزب الله التزوّد بها».
هذا الواقع سبق أن تطرّق إليه رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، مع بداية تولّيه منصبه في عام 2019، حيث حذّر من أن «أخطر ما يواجهه جيشه هو تقلُّص الهوّة النوعية مع حزب الله والمقاومة في غزة». لكن تَبْقى مسألة أكثر أهمّية ممّا تَقدّم، وهي أن أطراف محور المقاومة لا تستند فقط إلى التطوّر التكنولوجي الذي حقّق لديها قفزات نوعية مهمّة في السنوات الأخيرة، بل إلى عناصر أخرى لا تقلّ حيوية في مؤشّر القياس، وهي المتغيّرات المادّية والمعنوية للقوّة، وحكمة إدارتها، والتصميم والحزم المرافقان لها، سواءً على مستوى القيادة أو القاعدة. وبالاستناد إلى هذه العناصر تحديداً وغيرها، نجحت المقاومة في لبنان، في محطّات سابقة، في أن تُحرِّر الأرض وتنتج معادلات ردع تصاعُدية، وصولاً إلى تهديد المكانة الاستراتيجية لإسرائيل.
بالاستناد إلى تلك المعطيات، وتفاعُلات حضورها في حسابات كيان العدو وتقديراته، يمكن فهْم حجم القلق الذي يهيمن على المؤسّسات الإسرائيلية إزاء التطوّر الذي تشهده المنطقة، وباتت تل أبيب تتلمّس بعضاً من تداعياته على معادلات الردع الإقليمي الممتدّ من إيران وصولاً إلى «حزب الله» في لبنان. كذلك، يُفهَم، في ضوء ما تَقدّم، حجم التحوّل الذي طرأ على الدور الوظيفي للكيان، بعدما كان شُرطياً مَهمّته تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة (ولا يزال)، بينما أصبح اليوم يحتاج إلى مشاركة أميركية أعمق للحفاظ على أمنه القومي. ومن هنا، يصبح الحديث عن التهديد الوجودي (إلى جانب البعد التوظيفي له) المُحدق بإسرائيل أكثر وضوحاً وواقعية، كونه ينطلق من تقدير لاتّجاهات قائمة ومتسارعة، ولم ينجح العدو، ومعه الولايات المتحدة، سوى في التأثير في وتيرتها وجعلها أكثر كلفة بالنسبة إلى الطرف الآخر، وهو أمر طبيعي ومتوقّع في ظلّ موازين القوى العالمية الراهنة.