لندن | في ما يمكن اعتباره خطوة تصعيد إضافيّة من الصقور في واشنطن، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مصادر في الإدارة الأميركية، قبل يومين، قولها إن الرئيس جو بايدن، وفريق عمله في البيت الأبيض، ناقشوا خططاً لنشر آلاف، أو ربمّا عشرات الآلاف من الجنود، على حدود روسيا الغربيّة، وفي أوكرانيا. وعلى الرغم من السعي الحثيث لتسويق ذلك للحلفاء في أوروبا، بأنه «دفاع صلب عن السيادة الأوكرانية ضدّ تحرّكات روسيّة محتملة»، إلّا أن من الواضح أن واشنطن تحاول، عبر التلويح بإرسال جنودها إلى مركز الحدث، أن تستعيد المبادرة من الجانب الروسي، الذي بحُكم حجم الحشد العسكري والجغرافيا وسياق الأحداث، يبدو الأقدر على فرض إرادته في الحالة الأوكرانيّة، لناحية ميزان القوى.وبحسب الأنباء المتداولة في العاصمة الأميركية، فقد ناقش بايدن خططاً مع استراتيجيّي «البنتاغون»، لنشر ما بين ألف وخمسة آلاف جندي أميركي في رومانيا وجمهوريات البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، على أن يكون بالإمكان زيادة العدد إلى حدود الخمسين ألفاً، في ضوء التطوّرات. وجاء هذا بعد إعلان الحكومة الأميركية عن خطط لتزويد النظام الأوكراني بمعدّات متقدّمة لبناء قواعد لأنظمة الصواريخ، التي يمكن أن تُطلَق على موسكو، في غضون دقائق قليلة.
إلّا أنّ تمرير هذه الأنباء للصحافة، يعكس تصعيداً ملموساً في السياسة التي اعتمدتها إدارة بايدن، منذ بدء الحشد العسكري الروسي الضخم مقابل الحدود الأوكرانيّة، والتي استندت إلى ممارسة الضغوط من دون الاستفزاز المباشر. ولكن مزيجاً من تصلُّب الموقف الروسي في المفاوضات مع الغرب، مع دعوات متطرّفين في أجواء العاصمة الأميركية إلى بناء حشد عسكري ضخم لقوات «الناتو»، عبر شرق أوروبا، بناءً على افتراض أنّ الحرب مع روسيا ستندلع بالفعل، يدفعان بشكل متزايد إلى المخاطرة بإدخال أوروبا في حرب عالمية ثالثة. ومع أن كلّ الأطراف تُدرك أن حرباً مثل تلك، مع قوّة نوويّة كبرى مثل روسيا، أمرٌ لا يشبه أيّاً من الحروب السابقة، إلّا أن بعض الرؤوس الحامية في واشنطن تريد ردع موسكو، عبر نشر عدد أكبر من القوات المسلّحة، ممّا جهّزه الروس شرق أوكرانيا. ووفق تقديرات غربية، تتواجد تشكيلات من أفضل مكوّنات الجيش الروسي، يصل عديدها إلى أكثر من مئة ألف جندي، اتّخذوا مواقع هجوميّة، وأنشأوا استحكامات ومستشفيات مؤقتة.
في ظلّ كلّ ذلك، تعوّل الولايات المتحدة على وجود قوّاتها في قواعد عبر البرّ الأوروبي، في ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها، ممّا يسهّل نقلها بسرعة نسبيّة إلى الشرق، كما تتوقّع دعماً من حلفائها في «حلف شمال الأطلسي»، على رغم تمنُّعٍ ألماني جليّ عن التورّط، وصعوبة إقناع دول أخرى بالتدخّل في أوكرانيا، الدولة غير العضو في «الناتو». وتبدو بريطانيا، في هذا المجال، الأكثر اندفاعاً لدعم العدوانيّة الأميركيّة، لا سيما أنّها أرسلت بالفعل أسلحة مضادّة للدروع وصواريخ ومعدّات قتاليّة، ومدرّبين إلى مطار العاصمة الأوكرانيّة، كييف.
اتّهمت موسكو، واشنطن ولندن، بتضخيم المخاوف من الحشد الروسي


ولمزيد من التهويل، أمرت وزارة الخارجية الأميركية عائلات الديبلوماسيين الأميركيين في أوكرانيا، بسرعة المغادرة، ونصحت مواطنيها بأن يفعلوا الشيء ذاته، بسبب جدّية التهديد المستمر بعمل عسكري روسي، وهو إجراء يُتّخذ عادة في حال كانت الحرب وشيكة.
وكان ضابط أميركيّ رفيع المستوى، ممّن شاركوا في المشاورات بين الجانبين الأميركي والأوكراني، دعا صراحة إلى نقل أسلحة متطوّرة من «الناتو» إلى الجيش الأوكراني. وقال الكولونيل ألكسندر فيندمان، في تصريحات صحافية، إن «الأمور على الحدود تتحرّك بالفعل. ومن شبه المؤكّد أن غزواً سيحدث، والآن هو الوقت المناسب لاتخاذ خطوات جادّة، في اللحظة الأخيرة، لأنّنا على وشك حصول أكبر حرب في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية، قبل 80 عاماً». كذلك، نقلت مواقع عن جيم تاونسند، المسؤول السابق في مجال التخطيط الاستراتيجي في «البنتاغون»، قوله إن «من المرجّح أن يكون الوقت متأخّراً جدّاً لردع بوتين». إلّا أنه شدّد على أنه «لا بدّ من الشروع بإرسال الجنود الأميركيين سريعاً»، داعياً إلى «تحويل أوروبا إلى معسكر مسلّح ضخم في مواجهة تصاعُد فرص حدوث الغزو الروسي».
في مقابل كلّ ذلك، نفت موسكو - التي اتّهمت الولايات المتحدّة (وبريطانيا)، بتضخيم المخاوف من الحشد الروسي -، عدّة مرّات، نيّتها اقتحام الحدود مع أوكرانيا. وأعلنت وزارة خارجيّتها أن «نشر المعلومات المضلّلة من جانب وزارة الخارجية البريطانية بشأن التجهيز لانقلاب في أوكرانيا، والتحضير لغزوها، دليلٌ آخر على أنّ دول الناتو بقيادة الأنكلوسكسون تريد تصعيد التوتّرات حول أوكرانيا، لأهداف أخرى»، داعية إلى «وقف الأنشطة الاستفزازية». وكان الموفدون الروس حاسمين بإبلاغهم الأميركيين، في عدّة اتصالات، برفضهم أيّ توجّه لضمّ كييف إلى «الناتو»، الأمر الذي إن حصل، قد ينتهي إلى تواجد للقوات الأميركيّة على الحدود الروسيّة مباشرة، وربما توظيف أيّ فوضى ممكنة هناك لإطلاق «أفغانستان ثانية» تُنهك روسيا، كما حصل للاتحاد السوفياتي، في الثمانينيات من القرن الماضي.
في موازاة ذلك، بدأ «الناتو» مناورات حربية في البحر الأبيض المتوسّط، أطلق عليها اسم «ضربة نبتون 22»، على أن تستمر حتى الرابع من شباط المقبل، بمشاركة حاملة الطائرات «ترومان». وأشار جون كيربي، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، إلى أن تلك المناورات «لا تتعلّق بسيناريوات محدّدة بشأن الأزمة الأوكرانية»، وإن كانت تحمل بالضرورة رسائل لموسكو حول جديّة الأميركيين في الدفاع عن سيادة أوكرانيا، إن تطلّب الأمر بالنظر إلى الحشود الروسيّة الضخمة على الحدود. وإلى جانب «نبتون 22»، سيُجري الحلف مناورات أخرى على مواجهة الغواصات لاحقاً، في 20 شباط، كما ستنطلق، في 22 من الشهر ذاته، مناورة عسكرية ضخمة تقودها النروج، يشارك فيها خمسة وثلاثون ألفاً من جنود 26 دولة.
في المقابل، يبدو الجانب الروسيّ مرتاحاً لموقفه الاستراتيجي، كما أنّه لن يتراجع بسهولة عن سقوفه العاليّة التي أبلغها للأميركيين ولمفاوضين أوروبيين، والتي تقضي بمنع تواجد قوات تابعة لـ»الناتو» في أيّ من الجمهوريات السوفياتيّة السابقة في شرق أوروبا. ويظهر، الآن، تيّار قويّ في القيادة الروسيّة، يرى أنّه لا بدّ من مماثلة الاستراتيجيّة الأميركيّة في محاصرة روسيا، والتي تقضي بفتح عدّة جبهات متوازية وبطرق مختلفة – عسكريّة واضطرابات وعقوبات اقتصاديّة ومناورات – باستراتيجيّة مماثلة، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم.