يتمايز اليهود المتديّنون (الحريديم)، عن غيرهم من الإسرائيليّين، بأنّهم يقطعون أنفسهم عن العالم، كي يمنعوها عن التأثّر بالحداثة التي تهدّد هويّتهم العائدة إلى ما قبل القرون الوسطى. وعلى هذه الخلفيّة، يعيش هؤلاء في مدن خاصّة بهم، لا يتشاركون فيها مع غيرهم من «المارقين العلمانيّين»، كما هو الحال في مدينة بني باراك وأحياء شبه مقفلة عليهم في القدس المحتلّة، وغيرها. إلّا أنّ الحداثة، كما بات معلوماً، سيّالة جدّاً، إلى الحدّ الذي يمكّنها من تجاوُز أيّ عائق يَنصبه «الحريديم»، ولو على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُعدّ تقليدياً، بالنسبة إليهم، نافذة على الفساد والرذيلة والابتعاد عن التوراة، كما هو حال أجهزة التلفزيون المنبوذة والجالبة لـ«العلمانية البغيضة». ووفقاً للكتاب السنوي حول المجتمع «الحريدي» في إسرائيل، الصادر أخيراً عن «المعهد الإسرائيلي للديموقراطية»، فإن ثلثَي «الحريديم» باتوا يقاربون الإنترنت والعالم الرقمي، مقارنة بـ28٪ فقط منهم عام 2008، الأمر الذي يُعدّ مؤشّراً إلى تزايد تفاعل هؤلاء مع مظاهر الحداثة. لكن هل هذا التقدير مطابَق للواقع فعلاً؟عانت متاجر بيع الهواتف الذكية والكمبيوترات كثيراً في الأشهر الأخيرة نتيجة زيادة المضايقات عليها من «الحريديم»، والتي وصلت وفقاً للشرطة الإسرائيلية ووسائل الإعلام، إلى حدّ الاعتداءات الجسدية على أصحاب المتاجر وموظّفيها (غلوبس 31/12/2021). وليست هذه المضايقات إلّا واحدة من ردّات فعل دفاعية من الجماعة «الحريدية» على اقتحام الهواتف الذكيّة لمساحات أفرادها، الذين باتوا يقتنون الوسيلة المذكورة ويستعملونها أكثر فأكثر، ما يهدّد خطّاً دفاعيّاً عن الهويّة «الحريديّة». على أن تلك الردود لا يبدو، بحسب التّقرير، أنها تُحقّق المُراد منها؛ إذ إنّ «الخيول هربت بالفعل من الإسطبل»، كما يرد في المثل العبري الشائع. وبالنظر إلى أن ما يَقرب من ثلثي «الحريديم» (64%) باتوا عام 2020 يستخدمون الإنترنت، فمن الممكن القول، وفقاً لمراقبين إسرائيليّين (غلوبس)، إنّ الجمهور «الحريدي» بات أكثر انفتاحاً على المعلومات التي تُتيح له فهْم العالم مِن حَوله بشكل أفضل، وربّما تغريه للعثور على وظيفة أو فرصة للتعلّم والدراسة، و«بشكل عام، يكسر استهلاك الأخبار والتواصل مع العالم الخارجي، جدران الجماعة الحريدية كما فرضتها على نفسها».
عانت متاجر بيع الهواتف الذكية والكمبيوترات في الأحياء «الحريدية» كثيراً في الأشهر الأخيرة


على أنّ التدقيق في النسبة المذكورة، والتي تظلّ منخفضة مقارنةً بنظيرتها لدى اليهود غير المتديّنين (93 بالمائة)، يُظهر مؤشّرات مختلفة. إذ إن «الحريديم» يميلون إلى الاتصال عبر الكمبيوتر المنزلي (42 بالمائة)، وليس عبر الهاتف المحمول (30 بالمائة). وحتّى عندما تكون لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت بكلتا الطريقتَين، فإن معظمهم يفضّل الاتصال من جهاز كمبيوتر (62 بالمائة)، الأمر الذي يَثبت نقيضه تماماً لدى غير «الحريديم». كذلك، يَستخدم السواد الأعظم من «الحريديم» الشبكة العنكبوتيّة لأغراض غير معلوماتيّة أو اجتماعيّة، أي أنها غير متّصلة بالاستحصال على المعلومات والانفتاح على العالم الخارجي، بل من أجل الاطّلاع على بريد إلكتروني، أو للخدمات المصرفية الرقمية، أو خدمات الوزارات الحكومية، فيما الاستحصال على بيانات لا يشكّل أولوية بالنسبة إلى الشرائح غير «الحريدية». مع هذا، فإن ما لا يقلّ عن نصف المتديّنين يستخدمون الشبكات الاجتماعية، ولكن بأسلوب مغاير لما يعتمده الباقون، علماً أن 46 بالمائة منهم يستخدمون «الواتسآب» في مجموعات مغلَقة على «الحريديم» وقضاياهم الخاصة. أمّا الفئة العمرية ما دون 18 عاماً، فلا يتجاوز مستخدِمو الإنترنت منها 13 بالمائة، فيما يتجاوز نظراؤهم من غير «الحريديم»، 75 بالمائة.
بناءً على تلك المعطيات، يقسّم الدكتور غلعاد ملاخ، وهو أحد معدّي تقرير المعهد، «الحريديم» إلى ثلاث مجموعات: الثلث المحافظ الذي ما زال بعيداً عن الإنترنت بالمطلق، والثلث الذي يستخدم الإنترنت بشكل محدّد ومحصور بالأعمّ الأغلب بالبريد الإلكتروني فقط، والثلث الأخير الذي يتصرّف بشكل يكاد يكون مماثلاً لغيره من الإسرائيليّين. يعني ذلك أن الخلاصة التي بدأ بها المعهد تقريره، تعود لتتراجع لصالح تقدير بأن «الحريديم» ما زالوا بعيدين جدّاً عن «الخروج من الإسطبل»، وإن كانت ظاهرة امتلاكهم هواتف تثير القلق لدى قادتهم، وتُعدّ مؤشّراً يَجدر بالمراقبين متابعته لفهْم تحوّلات شريحة كبيرة ووازنة من الإسرائيليّين، تُعدّ جزءاً من المجتمع الإسرائيلي من دون أن تكون متماهية معه. والجدير ذكره، أخيراً، أن عدد «الحريديم» في إسرائيل بلغ حوالى 1.226.000، مقارنة بحوالى 750.000 عام 2009، وهي زيادة ملحوظة بلغت 13 بالمائة بعد أن كانت 10 بالمئة عام 2009، أي ثُمن مَن يسكن إسرائيل، علماً أن المرأة هي المعيل الأساسي للعائلة «الحريدية»، كونها تَعمل وتكسب المال مقابل تفرّغ الرجل لدراسة التوراة، في عائلة يصل معدّل عدد أفرادها إلى عشرة.