لم يكن عام 2021 عادياً بالنسبة إلى تركيا؛ إذ شهدت البلاد في خلاله تدهوراً اقتصادياً حادّاً أثّر على مختلف مناحي الحياة العامّة، وأسهم في توليد ديناميات مغايرة في الداخل والخارج. وإذ يُراهن رجب طيب إردوغان، في خضمّ تلك الديناميات، على أنه سيستطيع في الفترة الفاصلة عن الانتخابات، إحداث تحوّل اقتصادي بالاستفادة من عائدات سياسة الانفتاح التي ينتهجها حالياً، فإن وضعه في رئاسيات 2023 سيكون مرهوناً بالموقف الذي ستتّخذه المعارضة، ما بين التوحّد والذهاب نحو هزيمة شبه محتومة لإردوغان، أو التشتّت ومنح الأخير فرصة إضافية في القصر الرئاسي
ودّعت تركيا العام المنصرم بمشاعر متناقضة، واستقبلت العام الجديد باحتمالات مختلفة. على الصعيد الداخلي، طبع انهيار العُملة المحلّية، ولا سيما في الأشهر الأخيرة، البلاد بطابعه، حيث كان تخفيض الفائدة على الودائع بالليرة، والذي شرع به البنك المركزي في أيلول الماضي، بداية لانهيارٍ سريع للعُملة، وصل إلى ذروته في منتصف كانون الأول مع بلوغ سعر صرف الدولار الواحد 18 ليرة، بعدما كان بحدود الـ11 ليرة. ولكن تدخُّل الدولة من خلال ربط الودائع بسعر صرف الدولار، لجم هذا الانهيار نسبياً، لتعود الليرة وتتحسّن إلى حوالى الـ13 ليرة، لكن ذلك طرح سؤالاً كبيراً حول المدى الذي يمكن أن تبلغه الدولة في استنزاف خزينتها لتعويض الودائع، في حال استمرار انهيار سعر الصرف، خصوصاً أن الليرة خسرت مقابل الدولار خلال العام الماضي، مئة في المئة تقريباً من قيمتها، إذ كان الدولار يساوي 7.42 ليرات مطلع عام 2021، والآن أصبح يساوي 13.45 ليرة.
هذه الأزمة الاقتصادية أثّرت على مختلف جوانب الحياة العامّة، حيث وصلت نسبة البطالة رسمياً إلى 13%، فيما هي عملياً أكثر من 20%؛ وبلغت نسبة التضخّم وفق مؤسّسة الإحصاء التركية الرسمية 36% فيما وصلت وفق «مجموعة دراسات التضخّم» إلى 83%؛ وقارب الدين الخارجي 448 مليار دولار بعدما كان 129 ملياراً عام 2002، في حين لم تتعدَّ نسبة النموّ الـ4%. وارتفعت الأسعار بشكل جنوني في كلّ المجالات، ما ترك تداعيات بالغة على الطبقة الوسطى التي أصبحت طبقة فقيرة، ليخسر الاستقرار الاجتماعي بهذا إحدى أهمّ ركائزه. ويُستدلّ على ذلك بمثال بسيط، وهو أنه في عام 2003 كانت المئة ليرة تشتري 87 كيلو من الخبز، أمّا الآن فلا تشتري أكثر من عشرة كيلوغرامات. وواكب كلَّ ما تقدّم تغييرُ حاكم المصرف المركزي أربع مرّات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كما تغييرُ وزير المال والخزانة ثلاث مرّات خلال الـ12 شهراً الأخيرة، والإتيان بفريق عمل يؤيّد سياسة رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، والقائمة على خفْض الفائدة التي تراجعت من 16 إلى 14 نقطة خلال أيام قليلة، تبعاً لنظرة إردوغان الذي يرى أن ارتفاع الفائدة هو سبب التضخّم، ملمّحاً إلى أن إجراءاته تنسجم مع أحكام النصّ الإسلامي القاضي بإلغاء الفوائد وعمليات الربا، على رغم أن الاقتصاد التركي يمثّل جزءاً بنيوياً من الاقتصاد العالمي والرأسمالي، الذي قامت على أساسه كلّ الإنجازات الاقتصادية في تركيا في عهد «حزب العدالة والتنمية»، فيما يجري اليوم الحديث عن «اقتصاد إسلامي» وهمي لا يراد منه سوى استقطاب فئات متديّنة جديدة. واستثارت تلك السياسة انتقادات الخبراء الاقتصاديين، الذين اتّهموا إردوغان بالتدخُّل في ما لا يعنيه من أمور اقتصادية، والتخبُّط فيها، متهكّمين عليه بتوصيفه بـ«البروفسور»، عندما قال: «أنا خبير اقتصادي وكتبت كتاباً في الاقتصاد». ولعلّ من أقسى ما قيل في إردوغان هو كلام شريكه السابق ومعارضه الحالي، وصاحب الفضّل في النمو الاقتصادي حتى عام 2015، الوزير السابق علي باباجان، الذي قال إن «إردوغان لا يعرف، ولا يعرف أنه لا يعرف».
لا يبدو أن العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي ستعرف تحوّلاً جذرياً عن حالة «الستاتيكو» القائمة


أراح ربط الودائع بسعر الصرف، الليرة التركية إلى حدّ ما. ولكنّ الخبراء حذّروا من أن استمرار ذلك يعني إبقاء النزف في احتياطيّ العملة الصعبة في البنك المركزي، والذي يُقدَّر بـ130 مليار دولار، علماً أن «المركزي» ضخّ خلال الأزمة الأخيرة أكثر من 8 مليارات دولار، فضلاً عن عشرات المليارات من الدولارات (سابقاً) التي تتّهم المعارضة، السلطة، بتبديدها في مسارب مجهولة من الفساد والزبائنية. على أن تدخُّل الدولة بهذه الطريقة، عنى حُكماً بدء المعركة الرئاسية التي ستجري بعد سنة ونصف سنة في حزيران 2023، بعدما اعتادت الحياة السياسية في عهد إردوغان تسخير كلّ طاقات الدولة لخدمة مشاريع الحزب الواحد وتطلّعات الشخص الواحد، وباتت المسافة غير مرئية بين الدولة والسلطة وبين الرئيس والحزب، ولا سيما في أعقاب التعديلات الدستورية لعام 2017، والتي قضت بانتقال البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وحصْر كلّ الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، وهو الأمر الذي تَحقّق في انتخابات 2018 التي جاءت بإردوغان رئيساً حزبياً للجمهورية، بصلاحيات مطلقة. إزاء ما تَقدّم، شعرت القوى المعارضة كافة بأن مثل هذا النظام يهمّش كل مَن ليس في السلطة تهميشاً كاملاً. وفي ضوء تحكُّم إردوغان بالقرار، وفي ظلّ الانهيار الاقتصادي، تكتّلت هذه القوى في أكثر من جبهة أملاً بإقصاء الرئيس عند أوّل استحقاق، فيما منحتها استطلاعات الرأي جرعة قوية للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية فورية، ولكن إردوغان ردّ جازماً بأن «الانتخابات في موعدها عام 2023».
على أيّ حال، فإن متوسّط استطلاعات الرأي يرسم الخريطة التالية:
1- «تحالف الجمهور» بين «حزب العدالة والتنمية» وشريكه «حزب الحركة القومية»، الذي أصبح شريكاً لإردوغان منذ أن خسر «العدالة والتنمية» الغالبية في البرلمان عام 2018، وتَبيّن للرئيس أنه لا يمكنه الفوز بالرئاسة من دون أصوات «الحركة القومية». وتمنح الاستطلاعات الطرف الأوّل في هذا الائتلاف 30% (بتراجع 8 نقاط على الأقلّ)، والطرف الثاني 7%، أي بمجموع 37% قد تصل في أحسن الأحوال إلى 40%، وهي بالطبع نسبة غير كافية للفوز بـ50+1% من الأصوات.
2- «تحالف الأمة»، الذي يضمّ «حزب الشعب الجمهوري» العلماني و«الحزب الجيد» القومي، وتعطيه الاستطلاعات 41% من الأصوات - بما يعني التعادل تقريباً مع «تحالف الجمهور» -، موزّعة على 27% للأوّل وحوالى 14% للثاني.
3- «حزب الشعوب الديموقراطي» (الكردي)، الذي تعطيه الاستطلاعات 10 إلى 11%، فيما لم يقرّر هو بعد موقفه النهائي، في انتظار معرفة ما يمكن أن يعطيه أحد التحالفَين المشار إليهما أعلاه، للمسألة الكردية في تركيا. لكنّ الحزب يبدو أقرب إلى «تحالف الأمة» المعارض، بالنظر إلى مرارة تجربته مع حكومة إردوغان، التي اعتقلت الآلاف من أنصاره، ومنهم رئيسه السابق صلاح الدين ديميرطاش، وتتّهمه بأنه «إرهابي يدعم حزب العمال الكردستاني»، بل تعمل، عبر القضاء، على حظْره لتشتيت أصوات الناخبين الأكراد.
4- مجموعة من الأحزاب الصغيرة تضمّ: «حزب الديموقراطية والتقدم» لعلي باباجان، المنشقّ عن إردوغان وذي السمعة الرصينة، وتعطيه الاستطلاعات بحدود 3%؛ و«حزب المستقبل» لأحمد داوود أوغلو، المنشقّ أيضاً عن إردوغان، وتمنحه الاستطلاعات بحدود 2%؛ و«حزب السعادة الإسلامي» (أسّسه الراحل نجم الدين أربكان) الذي يحوز في الاستطلاعات على واحد ونصف في المئة، علماً أنه معارِض مبدئياً لإردوغان، ولكنه منفتح عليه بل ويَعقد لقاءات معه. ويُضاف إلى تلك، أحزاب صغيرة جدّاً، مِن مِثل «وطن» و«مملكت» (أي وطن)، ويمكن إجمال أصواتها بـ10%.
معارضة كلّ هذه الأحزاب لإردوغان لا تعني سقوطه في الانتخابات، لأن هذا مرتبط باتفاق المعارضة على مرشّح مشترك، ومن هنا، فإن سلوك المعارِضين سيكون محدّداً رئيساً لاتجاهات المعركة. ويبدو «حزب الشعوب الديموقراطي» في موقع مؤثّر جدّاً في هذا السياق؛ إذ إن أيّ مرشّح لـ«تحالف الأمة» ينال أصوات الحزب الكردي سيفوز حتماً في الانتخابات، من دون الحاجة إلى أصوات الأحزاب الصغيرة، فيما عزوف «الشعوب» عن دعم مرشّح بعيْنه، سيجعل الصراع على الصوت الكردي شرساً. كما أن موقف الأحزاب الصغيرة يُعدّ مهمّاً؛ كونها قادرة على ترجيح هذا المرشّح أو ذاك. وفي حال نيل مرشّح المعارضة أصوات «تحالف الأمة» والحزب الكردي وحزبَي باباجان وداود أوغلو، فإن هزيمة إردوغان ستكون مؤكدة، بل وبفارق كبير في الأصوات، حيث سيحتاج الرئيس حينها إلى أكبر من معجزة للبقاء في القصر الرئاسي. في المقابل، يراهن إردوغان على إحداث تغيير اقتصادي في الفترة الفاصلة عن الانتخابات، والبالغة سنة ونصف سنة، لكنّ تغييراً مثل هذا يحتاج إلى وقت ولا يمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها. وعلى رغم أن الرئيس يرفض إلى الآن أيّ انتخابات مبكرة، إلّا أنه اعتاد على مفاجأة الخصوم، بحيث إذا كان الظرف مؤاتياً في لحظة اقتصادية ما، فلن يتردّد في الدعوة إلى مثل هذه الانتخابات في الصيف أو الخريفَين المقبلَين. أمّا في حال خروجه من الرئاسة، فذلك يعني نهاية حتمية لأمرَين: النظام الرئاسي في الداخل و«العثمانية الجديدة» في الخارج.

باتت أنقرة مستعدّة لفتح صفحات جديدة مع دول كانت تَعتبرها الشيطان بذاته


من جهة أخرى، أثّر تراجع سعر صرف الليرة على السياسة التركية الخارجية، حيث باتت أنقرة مستعدّة لفتح صفحات جديدة مع دول كانت تَعتبرها الشيطان بذاته، من أجل ضخّ الدولار في شرايين الاقتصاد. ولذا، فقد ظهرت في عام 2021 علامات انفراج في العلاقات مع أطراف مِن مِثل مصر والإمارات وأرمينيا واليونان، وربّما إسرائيل، لكنها لا تزال تحتاج إلى ترجمة جدّية، ولا سيما في حالتَي مصر وأرمينيا، التي يلعب لوبيّها في الشتات دوراً مؤثّراً في توجّهات رئيس حكومتها، نيكول باشينيان، علماً أن هذا اللوبي معادٍ لأّي خطوات «انفتاحية» على تركيا، وذلك تحت ضغط هزيمة «حرب الـ44 يوماً»، من دون تلبية العديد من الشروط الأرمينية الجوهرية. أيضاً، تُطرح علامات استفهام حول مصير الانفتاح على الإمارات، وربّما السعودية لاحقاً، في ظلّ استمرار الخلافات مع الولايات المتحدة، والتي لم تَظهر، منذ انتخاب جو بايدن، أيّ علامة على حلحلتها، سواءً في ما خصّ صفقة «أس 400» التي تعارضها واشنطن، أو الدعم الأميركي لأكراد سوريا، أو رفْض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولين إلى تركيا، فضلاً عن اعتراف بايدن - ولو نظرياً - بالإبادة الأرمنية، ورفضه استقبال إردوغان في نيويورك في نهاية شهر أيلول الماضي. ولا يبدو حتى الآن أن الموقف التركي المتقاطع مع الأميركي في أوكرانيا، أو رسائل التودّد التركية تجاه إسرائيل، قد أحدثا المفعول المطلوب في واشنطن، وهو ما يجيز توقُّع مزيد من التصعيد في سياسة الضغط الاقتصادي، وصولاً إلى محاولة التخلّص من إردوغان في الانتخابات الرئاسية.
وفيما أسهم عقْد اجتماعات بين وفود يونانية وتركية في العام المنصرم، في تخفيف التوتّر بين البلدين، من دون أن يسفر عن أيّ نتيجة إلى الآن، لا يبدو أن العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي ستعرف تحوّلاً جذرياً عن حالة «الستاتيكو» القائمة راهناً. أمّا الموقف التركي من سوريا فلم يتغيّر قيد أنملة منذ عام 2011، في ظلّ استمرار محاولات أنقرة التدخُّل عسكرياً في الأراضي السورية للإمساك بأوراق جديدة، وإنهاء وجود القوات الكردية شرق البلاد، كما استمرار توظيف مسلّحي إدلب لأكثر من هدف، بالاستفادة من استنكاف روسيا عن ممارسة الضغوط الكافية على تركيا لحمْلها على الانسحاب من سوريا. ويحمل هذا التراخي الروسي على الاعتقاد بأن العلاقات التركية - الروسية المتنامية والمتقاطعة في أكثر من ملفّ، ستتواصل، في ظلّ إحجام الولايات المتحدة عن تقديم بديل جدّي من هذه العلاقات، يغري تركيا بالعودة الكاملة إلى الحضن الغربي.