«لدى خصومنا القوّة، وسيتمكّنون من التغلّب علينا، لكنّ السيروراتِ الاجتماعية لن توقفها الجرائم ولن يوقفها التجبّر، فنحن نملك التاريخ، والشعب يصنع التاريخ». بهذه الكلمات الأخيرة، وأثناء محاصرة الجنود لقصره الرئاسي في انقلاب عسكري مدعوم من واشنطن، توجّه الرئيس التشيلي الاشتراكي، سيلفادور أليندي، إلى شعبه، قبل ساعات من اغتياله الذي سيضع البلاد تحت رحمة حكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه لـ17 سنة مقبلة. سنواتٌ لم تمنع الشعب التشيلي من أن يعود ليقول كلمته الحاسمة، ويعيد تأكيد موقفه الثابت، عبر انتخاب النّائب والزّعيم الطّلابي اليساري، غابرييل بوريك، رئيساً للبلاد هذا الأسبوع.
(أ ف ب )

في أحد معارض تشيلي الذي يوثّق دور واشنطن في تحويل الحكم في البلاد من ديموقراطي إلى ديكتاتوري، سيجد الزائر هاتفاً، يمكنه أن يرفع سمّاعته للاستماع إلى محادثة عادية، أعيد تسجيلها بين رجلين، هما الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنجر، في العام 1973. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، فإنّ الرجلين كانا، آنذاك، يتبادلان الحديث عن آخر مستجدات كرة القدم، وعن دورهما في انقلاب عسكري أطاح برئيس منتخبٍ ديموقراطياً على بُعد آلاف الكيلومترات من بلادهما. وفي المعرض أيضاً، الذي سُمّي بـ«أسرار الدول: رفع السرّية عن تاريخ ديكتاتورية تشيلي»، طابق سفلي، يجد الزائر نفسه فيه داخل متاهة من الوثائق، تشمل الإحاطات الرئاسية، وتقارير الاستخبارات، والبرقيات، والمذكرات، التي تصف العمليات السرّية وطريقة جمع المعلومات الاستخباراتية التي قامت بها الولايات المتحدة في تشيلي، منذ عهد نيكسون، وصولاً إلى عهد رونالد ريغان، والخروقات الإنسانية التي ارتكبتها خلال التخطيط للانقلاب العسكري، من ضمنها اغتيال وزير الخارجية ووزير الدفاع في إدارة أليندي، أورلاندو ليتيلييه، وزميله الأميركي، روني كاربن موفيت، في واشنطن عام 1976، ومقتل المواطن الأميركي، ذي الأصول التشيلية، رودريغو روخاس، الذي أحرقه الجنود حياً عام 1986.
أليندي مع كاسترو

وفي ذكرى الانقلاب الذي يصادف الـ11 من أيلول 1973، نشرت شبكة «قناة التاريخ» الأميركية تقريراً، تتحّدث فيه عن إنفاق نيكسون عشرات ملايين الدولارات لشنّ عمليات سرّية ضدّ أليندي قبل انتخابه وبعده، ودعم خصومه، وعن محاولات وكالة الاستخبارات المركزية رشوة الكونغرس والجيش في تشيلي، وابتزازهم لحرمان أليندي من الرئاسة، إلى جانب إطلاق حملة من المعلومات المضللة ضدّه على نطاق دولي، وصولاً إلى دفع أموال لعصابة بقيادة جنرال يميني، لاغتيال رئيس القوات المسلحة التشيلية، الجنرال رينيه شنايدر، لمعارضته فكرة الانقلاب.
في الواقع، كان «شبح الاشتراكية» في تشيلي يقلق واشنطن، الخائفة على مصالح شركاتها الكبرى في البلاد، بعدما وعد أليندي بتأميمها وتأميم المصارف الأجنبية، على غرار الطبقة البرجوازية التشيلية، التي سعت، بدورها، إلى تنظيم إضرابات منسّقة لخلق الفوضى، وأبرزها إضراب الشاحنات الذي رافقه إغلاق للمحال، واللذين كانا يهدفان إلى شلّ حركة النقل على الطرق السريعة ووصول أي سلع للشعب، وخلق الفوضى لإضعاف الدعم الشعبي لأليندي. ومن أبرز هذه المصالح، الشركات الأميركية الثلاث الكبرى العاملة في النحاس، «كينيكوت» و«كيرو» و«أناكوندا»، بالإضافة إلى نحو 100 مؤسسة في تشيلي، مملوكة بشكل جزئي أو كلّي من الولايات المتحدة، بلغ مجمل إيراداتها في العام 1968 نحو 700 مليون دولار، بحسب «نيويورك تايمز».
الرئيس المنتخب غابرييل بوريك (أ ف ب)


إرث بينوشيه

في الفترة التي تلت الانقلاب، عُرف حكم الديكتاتور، أوغستو بينوشيه، بالجرائم والانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان، والأهم أنّه عرف بسياسات اقتصادية عملت على خصخصة حاجات المواطنين الأساسية، لا سيما المياه، ممّا أدى إلى انقطاعها عن ملايين المواطنين بشكل متكرّر لسنوات طويلة. وبالرغم من النمو الاقتصادي الذي كانت تشهده تشيلي، أغنى بلدان القارة، ازداد التفاوت الاجتماعي إلى حدّ كبير، ما جعل «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD) تصنّفها أكثر البلدان لامساواةً ضمن المنظمة، بحسب تقرير نشرته «رويترز» في العام 2019، إذ زادت الفجوة في المدخول بنحو 65 في المئة عن معدّل المنظمة. وقد لفت التقرير أيضاً إلى أنّ 10 في المئة من السكان في ذلك الوقت كانوا يتقاضون ما يفوق متوسط الدخل في البلاد بـ26 مرة ونصف، فيما نصف العمّال يتقاضون بالكاد ضعف الحد الأدنى للأجور (550 دولاراً)، بحسب «المعهد الوطني للإحصاء». وبعدما أسقط استفتاء شعبي الحكم الديكتاتوري، في العام 1990، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من التخلّص من إرث بينوشيه، ما أنتج في العام 2019 أكبر موجة من الاحتجاجات في البلاد ضدّ حكومة الرئيس السابق، سيباستيان بينيرا، اليمينية.
أوغستو بينوشيه (أ ف ب)

وللمفارقة، ينتمي منافس بوريك لرئاسة تشيلي في هذه الدورة الانتخابية، اليميني المتطرف، خوسيه أنطونيو كاست، إلى عائلة معروفة بدعمها لنهج بينوشيه، وبمشاركتها فيه أيضاً. وهي تواجه اتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة حكمه، بحسب صحيفة «ذا كونفرزيشن» الأسترالية، التي تلفت أيضاً إلى أنّه في حال فوزه كان كاست سينتهج سياسة تخدم مصلحة النخبة المقربة من بينوشيه، علماً أنّه لم يخفِ يوماً إعجابه بنموذج حكم هذا الأخير. وتضيف الصحيفة أنّ والد كاست كان ينتمي إلى الحزب النازي، قبل فراره إلى تشيلي بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا أخوه ميغال كاست-ريست، فكان عضواً في مجموعة «صبية شيكاغو» (Chicago Boys)، وهي مجموعة من الخبراء الاقتصاديين التشيليين الذين كُلّفوا من جامعة هارفارد بصياغة النموذج الاقتصادي النقديّ الصارم الذي سينتهجه بينوشيه في السنوات التي تلت الانقلاب.
بطبيعة الحال، لم يستجب الشعب التشيلي لخطاب كاست القائم على تأجيج العداء تجاه النازحين وبعض من الجماعات المحلية، والتخويف من «انتشار الشيوعية» والإضرار بالأمن وغيرها، أي بمعنى آخر الخطاب الذي انتهجه القادة الشعبويون في السنوات الماضية، والذي إن حقّق أهدافه في بعض أجزاء العالم كان لا بدّ أن يفشل في تشيلي وغيرها من بلدان أميركا اللاتينية التي تنبذ، واحدةً تلو الأخرى، عقوداً من الحكم اليميني المدعوم من واشنطن.

طيف أليندي

في الاحتفالات التي تلت فوز بوريك، وفي التهنئات التي تلقاها من قادة أميركا اللاتينية، كان طيف أليندي حاضراً. فإلى جانب الصور والأعلام التي حملها مناصروه، أشاد مهنئوه بـ«انتصار شعب أليندي على الفاشية»، معتبرين أنّ هذا النصر نتاج الإرث الذي تركه، وأنّ عودة اليسار إلى البلاد ما هي إلا تمثيل لإرادة شعوب أميركا اللاتينية بالعيش «في حرية وسلام وعدالة وكرامة!».
(أ ف ب)