«ولدت النيوليبرالية في تشيلي، وستموت أيضاً في تشيلي»؛ عبارة كُتبت على واحدة من لافتات التظاهر في تشيلي، خلال التحرّكات التي شهدها عام 2019 ضدّ حكومة الرئيس السابق، سيباستيان بينيرا، اليمينية. وبعد قُرابة عامَين مذّاك، جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية لتضع لبِنة جديدة على ذلك الطريق، وفق ما يقرأ فيها مؤيّدو اليسار في هذا البلد، بعد أخرى تَمثّلت في تغيير الدستور الساري منذ عهد ديكتاتورية أوغوستو بينوشيه (1973 ـــ 1990)، لتَدخُل تشيلي، مع تفويض اليساري، غابريال بوريك، تولّي منصب الرئاسة، حقبة جديدة في تاريخها الحديث. وبعد فرز أكثر من 99% من الأصوات، حصل بوريك، الذي يقود الائتلاف اليساري الواسع «أبريبو ديغنيداد»، على 55.86% من الأصوات، مقابل 44.14% لمنافِسه المنتمي إلى تيّار اليمين المتطرّف، خوسيه أنطونيو كاست، الذي سارع إلى الإقرار بهزيمته، كاتباً في تغريدة على موقع «تويتر»: «تحدّثت للتوّ مع غابرييل بوريك، وهنّأته على نجاحه الكبير. من اليوم، هو الرئيس المنتخَب لتشيلي، ويستحقّ منّا كلّ الاحترام والتعاون البنّاء. تشيلي أوّلاً دائماً». اللافت أيضاً، أن نسبة التصويت في الجولة الثانية من هذه الانتخابات، بلغت 55%، بمشاركة أكثر من 8.3 ملايين تشيلي في الاقتراع، في ما يمثّل النسبة الأعلى منذ عام 2012.هكذا، انضمّت تشيلي إلى «الركْب الوردي» الذي لا يفتأ متنقّلاً بين دول أميركا الجنوبية، بعد فترةٍ من سيطرة القوى اليمينية الموالية لواشنطن على السلطة في عدد كبير من تلك الدول. ويرى محلّلون لاتينيون في فوز بوريك مؤشّراً إلى أن تشيلي «عادت إلى طبيعتها»، معتبرين أن هذا الانتصار يعبّر عن قوّة «الانفجار التشيلي» الذي عمّ المجالات كافّة في السنتَين الأخيرتَين. ويرفع بوريك، الذي يُعدّ أصغر رئيس تشيليٍ (35 عاماً)، لواء مشروعٍ ديموقراطي اجتماعي للعدالة الاجتماعية، في بلد يُعدّ من أغنى بلدان أميركا اللاتينية ويُعتبر متقدّماً في مجال مكافحة الفقر، إلّا أنه يشهد أشكالاً من عدم المساواة الاجتماعية. ومن هنا، يصف محلّلون يساريون بوريك بأنه «أصفر للغاية» في إشارة إلى تعبيره عن «اليسار الإصلاحي»، فيما يرى آخرون أن فوزه «يعيد رسم خطّ سياسي جديد بعيداً عن الخطّ الذي تمّ انتهاجه خلال السنوات الثلاثين الماضية».
وعد بوريك بالدفاع عن العملية التأسيسية بطريقة ديموقراطية، بمشاركة الشعوب الأصلية


وكان الرئيس الشاب، الذي لا يمثّل الأحزاب التقليدية الحاكمة للبلاد منذ عام 1990، دخل المعترك السياسي كقائد لـ«اتّحاد الطلاب» في جامعة تشيلي، وقاد التظاهرات التي هزّت البلاد عام 2011 للمطالبة بتعليم مجاني. وفي خلال حراك 2019، مثّل بوريك طرفاً أساسياً في المفاوضات التي مهّدت الطريق لصياغة دستور جديد. وفي حديثه إلى تجمّع وسط مدينة سانتياغو، أقرّ الرئيس المنتخَب بأن الأسباب التي أدّت إلى تلك الاحتجاجات لا تزال سارية، لكنه وعد بالدفاع عن العملية التأسيسية بطريقة ديموقراطية، بمشاركة الشعوب الأصلية. ويُعزى نجاح بوريك في الجولة الثانية، في جزء منه، إلى تَمكّنه من كسب دعم «الديموقراطيين المسيحيين» و«الحزب الاشتراكي»، بما في ذلك الرئيس السابق، ميشيل باتشيليت، الذي اعتبر متابعون أن بوريك يشبهه أكثر من سلفادور أليندي، انطلاقاً من كون الرئيس المنتخَب سوّق في حملته الانتخابية لثقافة يسارية جديدة، تَقْطع مع الثقافة الشيوعية الموروثة من أيام الحرب الباردة، في قضايا مِن مِثل فنزويلا ونيكاراغوا.
ووفق برنامجه الانتخابي، فإن أولويات حكومة بوريك تتمحور حول إصلاح نظام التقاعد الحالي، وتحقيق خدمة صحّية شاملة لا تميّز بين الأغنياء والفقراء، وتوزيع أفضل للثروة، ومعالجة مشكلة الإسكان، وتعزيز التعليم العام، وزيادة أجور العمال، ومكافحة الإتجار بالمخدرات، والدفاع عن حقوق الإنسان. وفي حديثٍ له بعد فوزه، اعترف بوريك بأن «الأوقات القادمة لن تكون سهلة»، ووعد بالتحرّك بمسؤولية مع إحداث تغييرات هيكلية في النظامَين السياسي والاقتصادي في البلاد. وبحسب صحيفة «ألبايس» الإسبانية، فإن أحد أهمّ التحدّيات التي سيواجهها الرئيس المنتخَب هو «محاولة إزالة حالة عدم اليقين الاقتصادي وتهدئة الأسواق، التي تتأثّر ردود أفعالها في تشيلي بشدّة بالتقلبات السياسية». وبالتالي، «ليس من المستبعد أن يقوم بوريك قريباً بتعيين مَن سيقود وزارة المالية». أمّا التحدّي الثاني المهمّ الذي سيَمثل أمام بوريك لحظة تولّيه الرئاسة رسمياً في آذار المقبل، فهو الضغط الأميركي المتوقّع عليه، للإطاحة به أو عرقلة عمله، في سيناريو شبيه بذلك الذي يواجهه حالياً رئيس البيرو اليساري، بيدرو كاستييو.