استؤنفت، أمس، في فيينا، الجولة السابعة من مفاوضات فيينا، بعد تعليقها وقتاً قصيراً للتشاور، في ظلّ أجواء سلبية أرخت بثقلها على الأوساط السياسية والإعلامية. وبينما لا يبدو أن لدى الولايات المتحدة أوراقاً كثيرة لـ«تلعب» بها في وجه إيران، بالنظر إلى إصرار الأخيرة على تلبية مطالبها دفْعة واحدة مقابل العودة إلى اتفاق 2015 كما هو أو مُعدّلاً، فهي بدأت، مجدّداً، التلويح بعَصا العقوبات، التي يَظهر أن طهران حضّرت نفسها لها، بتجهيز خيارات بديلة لـ«الأوقات الصعبة». في هذا الوقت، لا تجد تل أبيب خياراً سوى الاستمرار في تحريض واشنطن على إظهار «الحزم» بوجه الإيرانيين، واضعةً في بالها أنه أيّاً كان ما ستؤول إليه محادثات فيينا، فإن الوضع بالنسبة إليها، نووياً وصاروخياً، سيكون بالغ الصعوبة والخطورة
بات واضحاً أن المفاوضات النووية في فيينا تسير إلى طريق مسدود؛ فما تطلبه إيران يبدو أكبر ممّا يمكن للولايات المتحدة إعطاؤه، سواءً بقي اتّفاق 2015 على حاله أو تمّ تعديله. والظاهر أن إمكانية تليين موقف أيٍّ من الطرفَين متعذّرة ضمن واقع التموضع الحالي، الأمر الذي يتطلّب إيجاد أوراق ضغط جديدة، من شأنها الدفْع في اتّجاه تغيير هذه التموضعات. من ناحية واشنطن، بدأت تَصدر إشارات دالّة إلى إمكانية تشديد العقوبات الاقتصادية، من دون أيّ حديث عن اللجوء إلى الخيارات العسكرية المتطرّفة. وفي المقابل، لا تزال طهرات ثابتة على شروطها، المتمثّلة في العودة عن العقوبات التي فُرضت عليها بعد انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وتعويض الخسائر المالية والاقتصادية التي لحقت بها جرّاء ذلك، وضمان عدم تَكرُّره مرّة أخرى. ولعلّ ما يجعل واشنطن وحلفاءها، وفي مقدّمتهم تل أبيب، واقعين تحت ضغط أكبر، هو استمرار إيران في تطوير برنامجها النووي في اتّجاه حيازة القنبلة النووية، كما يدّعون، أو في حدّ أدنى، في اتجاه تحوّلها إلى «دولة حافّة نووية».
وبينما كانت الولايات المتحدة، عشيّة اتفاق عام 2015، في موقع يتيح لها إغراء إيران بتخفيف العقوبات عنها، مقابل إيقاف برنامجها النووي عند حدود معيّنة، بعيدة نسبياً عن القنبلة النووية، فقد باتت، الآن، في موقفٍ مغاير تماماً. آنذاك، اختارت طهران، في ظلّ الحكومة السابقة، الحدّ من برنامجها النووي، على أمل أن يؤدّي ذلك إلى إلغاء العقوبات، ومن ثمّ إلى فوائد اقتصادية، تَعذّر عليها تحصيلها نتيجة السلوك الغربي الذي أبقى مفاعيل الحصار سارية عملياً، قبل أن ينسحب الأميركيون نهائياً من الاتفاق، ويبدأوا تطبيق سياسة «الضغط الأقصى». سياسةٌ أسهمت، للمفارقة، في تعزيز موقع التيّار الإيراني المناوئ لأصل الاتفاق، والذي يبني موقفه على فكرةٍ مفادها أن الولايات المتحدة جهة لا يمكن الوثوق بها، وهو الأمر الذي لاقى صداه لدى الجمهور الإيراني نفسه، نتيجة ما لمسه الأخير من مراوَغة غربية، وأميركية تحديداً. ومن هنا، بدأت تتّسع دائرة مؤيّدي «التوجّه شرقاً»، والذي يتبنّاه ويدفع في اتّجاهه الرئيس الإيراني الحالي، إبراهيم رئيسي. ولعلّ ما يعزّز إمكانية المُضيّ في هذا الاتجاه، هو تشديد العقوبات الأميركية، التي وجدت إيران فرصة لتدريب نفسها على التعايش معها والالتفاف عليها، الأمر الذي جرّدها عملياً من فاعليّتها، إلى الحدّ الذي باتت معه قاصرة عن التأثير في القرارات الإيرانية.
يكاد الاتفاق السابق المُوقّع عام 2015 يكون بلا جدوى في الحدّ من القدرة النووية الإيرانية


ممّا تشير إليه الأنباء الواردة من فيينا، يبدو واضحاً أن طهران لا تزال على موقفها: تلبية كلّ المطالب دفعةً واحدة، مقابل العودة إلى الاتفاق كما هو؛ أو إجراء تعديلات عليه، ضمن إطاره السابق، من دون إدخال أيٍّ من الملفّات الإقليمية عليه، ربطاً بما يسمّى أميركياً بـ«النفوذ الإيراني في المنطقة» والسلاح التقليدي المتعاظم لدى الجمهورية الإسلامية. وفي حال لم تستجب واشنطن لهذه المطالب، فستعمد إيران إلى مزيد من التخفّف من التزاماتها المنصوص عليها عام 2015. وها هنا، تحديداً، تَبرز المعضلة الإسرائيلية؛ إذ إن هذا التخفّف لن تكون ممكنة العودة عنه لاحقاً، بمعنى أن ما تكتسبه طهران من خبرة وتقنيات، في ظلّ مستوى التخصيب الحالي (60%)، هو مكسب ثابت ومستديم، وأكثر أهمّية بأشواط من حجم اليورانيوم المخصّب نفسه. وكذلك الأمر في ما يتعلّق بتركيب أجهزة طرد متطوّرة، لا تقارَن بأجهزة الطرد المسموح بها وفقاً لاتفاق 2015؛ حيث إنه في حال تشغيل الأولى، ومن ثمّ معاينة معوّقاتها، ستكون إيران قد قلّصت إلى حدّ كبير مسافة الوصول إلى القنبلة النووية، التي لن تحتاج، والحال هذه، إلّا إلى قرار منها.
على هذه الخلفيّات وغيرها، يكاد الاتفاق النووي السابق يكون بلا جدوى في الحدّ من القدرة النووية الإيرانية. وبالتالي، فإن العودة إليه لن تحقّق للولايات المتحدة وحلفائها أيّ فائدة عملية تُذكر، وهو ما تدأب تل أبيب على التنبيه إليه. وفي الوقت نفسه، ما يُعرض على طهران من قِبَل واشنطن، ليس إلّا اتفاقاً آخر معدّلاً - من دون تغييرات جوهرية - عنوانه التزام إيران بالعودة إلى تموضعها النووي السابق، مقابل تخفيف العقوبات عنها، وهذا ما يُسمّى إسرائيلياً «الاتفاق الأسوأ» من سابقه. وعلى أيّ حال، فإن العُروض الأميركية، بصيغتها الحالية، لم تَعُد مُغرية بالنسبة إلى طهران، التي باتت لديها بدائل من فشل المفاوضات، على رأسها السعي للتخادم المتبادل مع خصوم الولايات المتحدة وأعدائها في الشرق، وفي مقدّمهم روسيا والصين، بالاستفادة من احتدام الصراع بين أولئك الأقطاب.
بناءً على ذلك، ما الذي يتبقّى أمام الولايات المتحدة وحلفائها من وسائل ضغط؟ الخيار العسكري الأميركي لا يزال، إلى الآن، غير مطروح على طاولة القرار. والخيار العسكري الإسرائيلي غير موجود من الأساس. أمّا بقيّة «الحلفاء» في المنطقة، فليس لديهم إلّا الانتظار، بالتوازي مع اشتغالهم على تخفيف حدّة التصعيد مع الجانب الإيراني. وبهذا، لا يكون بيد واشنطن إلّا إعادة تفعيل الضغط الاقتصادي، والتلويح - وإن عبر الجانب الإسرائيلي - بالخيارات العسكرية، وهو ما بدأ الحديث عنه بتسريبات أميركية عن توجّه إدارة جو بايدن إلى فرْض عقوبات على أشخاص وكيانات اقتصادية، في الإمارات وتركيا وماليزيا والصين وغيرها، يساعدون الاقتصاد الإيراني على التملّص من العقوبات، مع التشديد على الجانب الإماراتي، الذي يعدّ ثاني أكبر معبر مِن وإلى السوق الإيرانية. لكن هل يكفي هذا الخيار لدفع إيران إلى التراجُع؟ الواضح، حتى الساعة، أن تلك التهديدات لا تجد آذاناً صاغية في طهران.
على المقلب الإسرائيلي، يبدو أن ثمّة إصراراً على العيْش في عالم آخر، في ظلّ استمرار التهديد بالخيارات العسكرية، في حين أن جميع الأطراف المعنيّة تدرك أن لا مجال لتفعيل هكذا خيارات. وكما يَرِد على لسان معلّقين إسرائيليين، فما يجري هو «تبجُّح» مستند إلى لا شيء، و«غطرسة» كلامية بلا إمكانات لترجمة عملية. وعلى هذه الخلفية، يمكن فهْم الخبر الذي تصدّر الإعلام العبري أمس، ومُفاده مناقشة وزير الأمن، بني غانتس، مع نظرائه الأميركيين، إمكانية تنفيذ مناورة تحاكي عملية عسكرية أميركية - إسرائيلية مشتركة، لضرب المنشآت النووية في إيران. أوردت وسائل الإعلام العبرية الخبر بصورة تكاد يوحي بوجود قرار بالقصف المشترك، لكنّ التأمّل في طيّاته يشير، عملياً، إلى حجم المعضلة الإسرائيلية المتأتّية من انكشاف محدودية القدرة العسكرية لدى تل أبيب، وغياب الإرادة والمصلحة الأميركيتَين في اللجوء إلى الخيار العسكري، أو حتى التلويح به.