تشهد تركيا، منذ فترة، تخبُّطاً كبيراً على المستوى الاقتصادي، ولاسيّما في كيفيّة وقف التدهور المتسارع في قيمة اللّيرة إزاء الدولار. وبعدما بثّت زيارة ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، أنقرة، أملاً بإمكانية تصحيح هذا الوضع عبر ضخّ عشرة مليارات دولار كاستثمارات في الداخل التركي، وما نتج من هذا الإعلان من تحسّن فوري في قيمة الليرة، عاد التدهور بعد أيام قليلة فقط من الزيارة، لتتراجع العملة إلى مستويات قياسية جديدة أمس، مع ملامستها عتبة الـ14 ليرة مقابل الدولار الواحد. في هذا الوقت، ومع استمرار اعتماده سياسة تغيير الأشخاص سواءً في البنك المركزي أو في وزارة المالية والخزانة، عمد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أوّل من أمس، إلى إعفاء وزير المالية والخزانة، لطفي ألوان، وتعيين نائبه نور الدين نبطي مكانه. وبذلك، يكون ألوان قد أمضى سنة كاملة من ولايته، بعدما كان قد عُيّن في المنصب في العاشر من تشرين الثاني من العام الماضي، بدلاً من برات ألبيرق، صهر إردوغان، الذي تولّى الوزارة في تموز 2018، واستقال في 8 تشرين الثاني 2020، ليصبح لتركيا، بحسب صحيفة «قرار»، وزير جديد للمالية كلّ عام، علماً أن سعر صرف الدولار لدى تسلّمُ ألبيرق الوزارة كان 4.80 ليرة، بينما تراجعت العملة المحلّية لدى استقالته إلى ثماني ليرات مقابل الدولار، لتقترب الآن من 14 ليرة. والحال نفسه ينسحب على حاكمية المصرف المركزي، الذي تناوَب على رئاسته خلال سنوات قليلة أربعة حكّام، هم: مراد تشيتينكايا من 2016 إلى 2019، ومراد أويصال الذي بقي لسنة، ومن ثمّ ناجي أغبال الذي استمرّ أيضاً سنة، ليُعيَّن خلْفه شهاب قاوجي أوغلو في آذار 2021 ويظلّ في منصبه إلى الآن. وجاء إعفاء ألوان بعدما رفض الاستمرار في سياسات إردوغان الاقتصادية القائمة على أساس تخفيض الفوائد، ورفع سعر الصرف، وزيادة حجم الصادرات، وترخيص اليد العاملة، وخفض العجز في الميزان التجاري. إذ رأى الوزير المقال أن مهمّة حماية سعر الصرف هي من مسؤولية البنك المركزي، بينما تخفيض العجز هو من مهمّة الحكومة، ليتناقض بذلك مع سياسة السلطة والبنك المركزي، وهو ما دفع إردوغان إلى القول في اجتماع حزبه الأخير: «في هذه المعركة، لا يمكن الاستمرار مع رفاقنا مِن الذين يدافعون عن أسعار الفائدة»، الأمر الذي قوبل بعاصفة تصفيق لم يشارك فيها ألوان. في المقابل، يُعتبر نبطي، الذي كان الوحيد من بين جميع نواب وزير المالية السابقين الذي لم يتمّ إعفاؤه في أعقاب تعيين ألوان، من فريق عمل برات ألبيرق، ولذا فقد نُظر إلى تعيينه على أنه امتداد لسياسات الأخير. وانتُخب نبطي نائباً ثلاث مرّات، ممثّلاً الخطّ الإسلامي الذي يحتضن معظم الجمعيات ذات الطابع المتشدّد، مِن مِثل «نشر العلم» و«رجال الأعمال المسلمين الشبان» و«أنصار» و«وقْف تركيا للشباب» و«أوندير». ويَرفع الرجل، الذي يؤخذ عليه أنه لم يحصّل تعليماً اقتصادياً، شعاراً مفاده أن الفائدة هي سبب الأزمة، وأن التضخّم مجرّد نتيجة. وهو يَعتبر أن أولى الأولويات، وفقاً لما ذكره في حفل التسلّم والتسليم، تتمثّل في خفض الفوائد العالية وتعزيز فرص الاستثمار والاستخدام. وفي إشارة إلى كلام إردوغان عن «حرب الاستقلال الاقتصادية»، يقول نبطي: «لقد دخلنا طريقاً جديداً مع الرؤية الاقتصادية المستقلّة بالكامل التي يحلم بها رئيسنا وأمّتنا». ويدافع رئيس البنك المركزي الجديد، شهاب قاوجي أوغلو، الذي تَمثّلت أولى مهامه في التدخّل في السوق بحوالى مليار دولار، بدوره، عن سياسات إردوغان الجديدة، متوقّعاً ظهور نتائجها الإيجابية خلال ستّة أشهر، لافتاً إلى أن احتياطيّ تركيا من العملة الصعبة يواصل الارتفاع، وقد وصل إلى حدود 130 مليار دولار.
جاء إعفاء ألوان بعدما رفض الاستمرار في السياسات القائمة على تخفيض الفوائد


ويَذكر وزير المالية الجديد، في مقابلة معه عام 2015، أنه من مواليد عام 1964 في فيران شهر، وأنه يتحدّر من عشيرة النعيمي العربية المنتشرة في تركيا وسوريا، كما أنه من سلالة النبي محمد. ويُنقل عن والده سليمان أنه كان يقول لأولاده: «إنني أترك لكم سبع سلالات تكفيكم. لكنني لم آكل مالاً بلا زكاة، وأنتم لا تأكلوا مال أحد». ويقول نور الدين نبطي، في المقابلة نفسها: «نحن عشرة أخوة. وأَنظر إلى رئيسنا (إردوغان) على أنه الأخ الحادي عشر». وتفيد صحيفة «جمهورييات» بأن الوزير الجديد سينال راتبَين: راتب الوزارة وهو 32 ألف ليرة تركية، وراتب عضو هيئة «تورك تيليكوم»، والذي يقارب مع الإضافات 33 ألف ليرة تركية. وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، على نطاق واسع، صورة تجمع نبطي إلى الداعية فتح الله غولين، أثناء زيارة للأوّل إلى مقرّ إقامة الأخير في بنسلفانيا الأميركية، قبل خلاف غولين مع إردوغان. والجدير ذكره، أيضاً، أن نبطي يُعدّ صاحب اقتراح إغلاق بيوت الدعارة الرسمية في تركيا، والذي لم يمرّ.
على أيّ حال، تثير سياسة إردوغان الجديدة في الاقتصاد، شكوكاً في إمكانية نجاحها. ومن بين المنتقدين لخطواته الأخيرة، وزير الاقتصاد السابق ما بين 2003 و 2008، ورئيس حزب «الديموقراطية والتقدّم» علي باباجان، الذي اعتبر أن «مثل هذه السياسات لن تُحقّق نموّاً مستداماً، لأن الفرق بين اليوم والأمس هو أن تركيا كانت تسير تحت مظلّة الاتحاد الأوروبي ومعايير كوبنهاغن والديموقراطية والقانون والحريات. أمّا اليوم، فالنموذج التركي الجديد يتميّز بحاكميّته المطلقة وينحو نحو نموذج شرق آسيا». ويلفت رئيس الحكومة السابق، ورئيس حزب «المستقبل» أحمد داوود أوغلو، بدوره، إلى أن «تركيا غيّرت بين عامَي 1998 و 2018، أي على امتداد عشرين سنة، خمسة وزراء مالية. لكن منذ عام 2018، تاريخ إقرار النظام الرئاسي الجديد، تَغيّر ثلاثة وزراء مالية. هذا اسمه انهيار المؤسّسات». وأعاد الكاتب علي بيرم أوغلو، من جهته، الانهيار الحالي إلى انعدام الثقة، بسبب التصريحات «غير المسؤولة» لإردوغان من وقت لآخر، فيما يرى الكاتب عصمت بركان أن «عمر السلطة انتهى وإردوغان يعيش قحطاً كبيراً وهو في مأزق لا خروج منه». وفي الاتجاه نفسه، يعتقد مراد يتكين أن كلّ سياسات إردوغان تحاول أن تخدم معركته الرئاسية في انتخابات 2023، و«ما يقوم به اليوم هو اقتصاد انتخابي، وليس أيّ شيء حقيقي آخر».
أمّا الصحافية فيغين تشالي قوشو فتُورد، في صحيفة «قرار»، أن «31 مليون تركي لا يتناولون اللحوم والدجاج والسمك، وأن 16 مليوناً لا يحظون بالتدفئة، وأن 23 مليوناً يعانون من الفقر. وفي الأشهر الخمسة الأولى من عام 2021، لم يستطع أكثر من مليون ونصف مليون تسديد اشتراكاتهم الكهربائية، وأكثر من 674 ألف مشترك لم يسدّدوا اشتراكات الغاز الطبيعي». وتضيف تشالي قوشو أن «التضخّم بلغ العشرين في المئة، فيما الزيادات على الأسعار متواصلة». وتشير إلى أن «السلطة رفعت شعار تخفيض الفائدة يساوي تخفيض التضخّم، وقالت للناس إن سعر الصرف سيطير لكن عليكم بالصبر، من منطلق أن الفقر سيزداد، والقوّة الشرائية ستتراجع، ورغيف الخبز سيتقلّص حجمه، لكن الصادرات سترتفع، ويد العمل الرخيصة والاستثمارات التي ستأتي سوف تجعل النمو يزداد». في المقابل، يكتب عبد القادر سيلفي، المؤيّد لإردوغان، في صحيفة «حرييات»، أن «نور الدين نبطي ارتدى قميصاً من نار. لا يمكن القول إن العمل سهل، لأنه مع نموذج اقتصادي جديد، يجب في الوقت نفسه تطبيق ثورة في الذهنية، وهذا يتطلّب أوّلاً إعطاء الثقة للأسواق، لأن نصف الاقتصاد هو الثقة».
على المستوى الخارجي، رأت صحيفة «فاينانشل تايمز» أن «التغييرات الحالية تفتح الباب أمام مخاطر التضخّم الإضافي وعدم الاستقرار المالي»، واصفةً ألوان بأنه «آخر أصوات الأرثوذكسية الاقتصادية» في تركيا، لافتة إلى أنه «على رغم النظرة إليه بتقدير من عالم الأعمال، لكنه كان يشعر بعزلة متزايدة وكان ضدّ تخفيض الفوائد». وأشارت «رويترز»، من جانبها، إلى أن ألوان «من التكنوقراط الأخيرين الأصدقاء للسوق»، مضيفة أن «انهيار الليرة الحالي هو الأكبر منذ عام 1999»، معتبرةً أن «تخفيض الفائدة سيعطي نتائج عكسية لما يريده إردوغان، والتضخّم قد يرتفع إلى ثلاثين في المئة». أمّا «دير شبيغل» الألمانية فوصفت تركيا بـ«سفينة التايتانيك التي تغرق»، في حين يَنقل أوزغين آجار في «جمهورييات»، عن تيموثي آش من مؤسسة «بلوباي بورت فاي»، أن إردوغان في «وضع غير سويّ. إنه ملك عارٍ، وهو في الطريق ليصطدم بجبل الجليد الكبير».