عندما اغتيل الصحافي جمال خاشقجي على يد عملاءٍ تابعين للحكومة السعودية، عام 2018، تسبّب الأمر في فضيحة دولية. وبات واضحاً الآن أن قاتليه تدرّبوا في الولايات المتحدة. ففي حزيران الماضي، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن أربعة من المتورّطين في الجريمة، تلقّوا تدريبات شبه عسكرية من Tier 1 Group، وهي شركة أمنية خاصّة مقرّها في أركنساس.تُعدّ مجموعة Tier 1، المُرخّص تدريبها من جانب وزارة الخارجية الأميركية، جزءاً من صناعة عالمية مزدهرة. فمرتزقة الشركات ــــ أو الشركات الأمنية والعسكرية الخاصّة ــــ التي تتولّى بشكل متزايد المهامّ نيابة عن الدول، مع ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على مستوى حقوق الإنسان والديموقراطية. وتنتمي هذه المجموعة إلى شركة أعمال كبرى، هي Cerberus Capital Management، التي تمتلك صندوق الأسهم الخاصّة، الذي يمتلك بدوره Tier 1، وسلسلة من صانعي السلاح. وفي نيسان 2010، جرى دمج Cerberus مع DynCorp International، إحدى أكبر شركات المرتزقة في العالم.
بحسب "مرصد الصدمات"، The Observatory Shock Monitor، الذي يتتبّع تأثير الحرب المخصخصة، فإن مرتزقة الشركات يبرزون على خلفية الخدمات الدولية الشبيهة بالخدمات التي يقدّمونها. وهي شركات تكون مسجّلة في إحدى الولايات، لكنّها غالباً ما تعمل في ولاية أخرى، وتقدِّم خدماتها عبر مواقع إنترنت برّاقة، وشبكة من المكاتب والمرافق حول العالم. في البلدان التي تعمل فيها، تستخدم هذه الشركات موظّفين محلّيين وأجانب، وتتجاوز الخدمات التي تقدّمها الدور التقليدي للمرتزقة: من العمل في الحراسة، إلى القتال العسكري والدعم العملياتي، والعمل الإنساني، وإزالة الألغام الأرضية، أو إنقاذ الرهائن. باختصار، هي بديل من مجموعة كاملة من المهامّ التي كانت تقوم بها الدول تقليدياً، مع إمكانية الوصول إلى نوع المعدّات العسكرية التي تمتلكها الجيوش الحديثة.

تأثير حقوق الإنسان
زادت الدول من اعتمادها على المتعاقدين الأمنيين الخاصّين، ليس في النزاعات الدولية فحسب، ولكن بهدف تعزيز قوّتها محلياً. بدأ مرتزقة الشركات في التركيز على القطاعات الناشئة في مجال الأمن القومي، مثل حماية البنية التحتية الحيوية من الإرهاب والهجمات الإلكترونية، وإدارة تدفّقات الهجرة، وإدارة السجون ومراكز الاحتجاز، والقيام بالمهامّ الشبيهة بعمل الشرطة، بما في ذلك "تحييد" النشطاء المعارضين لمصالح الدول والشركات المتعدّدة الجنسيات.
خلال الاحتجاجات الأخيرة الواسعة النطاق في فرنسا، على سبيل المثال، قدّمت شركات مثل Groupe DCI خدمات تدريبية واستشارية لقوات الأمن الحكومية. وتُعدُّ هذه الشركة واحدة من عدّة شركات تقدّم الدعم لشرطة مكافحة الشغب في مواقع متنوّعة، مثل الولايات المتحدة والبحرين، على رغم الحساسية المتزايدة التي قد يثيرها انتشارها، لدى الرأي العام. كذلك، كان لمرتزقة الشركات دور فعّال في "الحرب على المخدّرات" الدولية، التي تموّلها الولايات المتحدة، في دول مثل كولومبيا والمكسيك، حيث أشرفوا على التدريب والصيانة والدعم اللوجستي للقوات الحكومية المسؤولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن انتهاكات حقوق الإنسان. في كيب تاون (جنوب أفريقيا)، يقوم مرتزقة الشركات بدور قوات الشرطة: دوريات في الأحياء الغنية، طرد الناس من الأماكن العامة...
من جهة أخرى، أثارت خصخصة السجون والمعتقلات معارضة كبرى، لما لها من تأثير على حقوق الإنسان. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، لدى شركات المرتزقة الثلاث التي تهيمن على السوق ــــ CoreCivic وGeo Group وManagement and Training Corporation (MTC) ــــ تاريخ طويل من الشكاوى، بسبب المعاملة المهينة، والعمل القسري، والإساءة والعنف والاعتداء الجنسي في السجون والمرافق الإصلاحية، ومراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها الأطفال والمهاجرون.

التهديدات من الفضاء الإلكتروني
عندما يقف النشطاء في طريق شركات المرتزقة، يمكن أن يجدوا أنفسهم مستهدفين. هناك العديد من التقارير عن تعرّض المدافعين عن حقوق الإنسان للتجسّس، أو حتى القتل، من قِبَل شركات الأمن الخاصّة. واحدة من أكثر الحالات شهرة، هي مؤامرة قتل بيرتا كاسيريس في هندوراس، وهناك أمثلة مشابهة في كولومبيا والبرازيل. وفي الولايات المتحدة، كشف موقع "ذي إنترسبت"، أن شركة الأمن TigerSwan، نيابة عن شركة Energy Transfer Partners، كانت تقوم بأنشطة استخبارية احتيالية، من خلال التسلّل إلى حركة الاحتجاجات المحلية والبيئية في Standing Rock التي عارضت مشروع خط أنابيب النفط في نورث داكوتا. وأشار الموقع إلى أن التقارير الصادرة عن Tiger Swan، جرى استخدامها من قِبَل الشرطة المحلية، ومكتب التحقيقات الفدرالي، ووزارة الأمن الداخلي. في الواقع ، ازدادت خصخصة الاستخبارات منذ هجمات 11 أيلول. وقد صرّح تيم شوروك، مؤلّف كتاب "Spies for Hire: The Secret World of Intelligence Outsourcing"، بأن 70% من موازنة الاستخبارات الأميركية، في عام 2007، وُضعت في عهدة مقاولين أمنيين. وبعد عام، وجد تحقيق أجرته صحيفة "واشنطن بوست"، أن 1931 شركة خاصّة كانت تتعاون في مهامّ الأمن القومي ومكافحة الإرهاب والاستخبارات. تطوّرت هذه الخدمات مع استخدام التقنيات الجديدة، وهي تشمل الآن النشر ضدّ التهديدات عبر الفضاء السيبراني. إذ يقوم مرتزقة الشركات بتوريد وصيانة تكنولوجيا البرمجيات وأنظمة الأجهزة؛ وجمع البيانات المتعلّقة بالأمن القومي، من خلال اعتراض المكالمات واختراق الهواتف المحمولة، وأنظمة تكنولوجيا المعلومات؛ وتحليل وتنظيم البيانات المتعلّقة بالأمن القومي؛ وإصدار تقارير تقييم المخاطر للقيادة العسكرية العليا؛ وتشغيل طائرات استطلاع من دون طيار أثناء الاحتجاجات أو في النزاعات المسلّحة خارج الحدود؛ وإجراء عمليات سرية تنطوي على أنشطة غير مشروعة مثل التسلّل إلى الحركات الاجتماعية أو استجواب المشتبه فيهم. هكذا، أصبح التجسّس الإلكتروني خدمة رئيسيّة تقدّمها شركات المرتزقة، التي تتعاقد، بشكل ضمني، مع جيوش كبيرة من المتسلّلين، وتدير أقسام تكنولوجيا المعلومات داخل شركاتهم. وفي هذا المجال، برزت كلّ من "هاميلتون بوز" ومجموعة RSB وG4S وControl Risks، كلاعبين رئيسيين.
وفي عام 2019، كشف عميل سابق لوكالة الأمن القومي عن مشروع Raven، وهو وحدة استخبارات أنشأتها الإمارات، يعمل فيها مرتزقة إلكترونيون، بما في ذلك بعض المعيّنين سابقاً، من قِبَل وكالات الاستخبارات الأميركية. وأمضى مشروع Raven سنوات في مراقبة المعارضين وغيرهم من منتقدي حكومة أبو ظبي، مثل الصحافي البريطاني روري دوناغي، والناشط الإماراتي أحمد منصور، والناشطة اليمنية توكّل كرمان.

الحاجة إلى تنظيم دولي
صناعة المرتزقة مبهمة بشكل لافت، وهي حقيقة ساعدت على نموّها في جميع أنحاء العالم. فهذا الأمر يحدّ من التدقيق العام في العمليات الداخلية والخارجية، على السواء، ويقلّل من التأثير السياسي للضحايا في مناطق النزاع، حيث تعلم الدول أن مواطنيها لا يتفاعلون بالطريقة ذاتها مع وفاة المقاول، كما عند مقتل جندي. ونظراً إلى حجمها ونطاقها، هناك ضرورة للسيطرة على مرتزقة الشركات، وتحميلهم المسؤولية عن أفعالهم. ستكون إحدى الخطوات المهمّة التنظيم الدولي الفعّال للحرب المخصخصة والأمن. فغيابه يعني بالنسبة إلى شركات المرتزقة، وتالياً الدول والشركات المتعدّدة الجنسيات التي توظّفهم، الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان. حتى عندما تتمّ إدانة المرتزقة بارتكاب جرائم، يتدخّل السياسيون أحياناً لتبرئتهم، كما فعل دونالد ترامب في كانون الأول 2020، عندما أصدر عفواً عن الموظفين السابقين في شركة "بلاكووتر".

(عن Open Democracy ــــ فيليب دازا ونورا ميرالّيس)