لندن | يبدو أن أزمة اللاجئين عند الحدود البولندية - البيلاروسية لن تنتهي قريباً، على رغم انخفاض أعداد العالقين منهم في محيط نقطة كونيتشا التي شهدت، خلال الأسبوعَين الماضيَين، معارك كرّ وفرّ بين لاجئين يحاولون العبور من الجانب البيلاروسي نحو بولندا – بوابة الاتحاد الأوروبي الشرقية – وقوات عسكرية ومدنيين بولنديين متطرّفين. لكن وارسو قد تكون غيّرت من تكتيكها في دفع آلاف اللاجئين عبر نقاط العبور بين البلدين، إلى توزيعهم على مجموعات صغيرة تحاول التسرّب في وقت واحد، عبر مواقع متعدّدة على طول الحدود. ويأتي كل ذلك في حين تتصاعد المخاوف الأوروبية، من ممارسة بيلاروسيا سياسة ابتزاز في مواجهة عقوبات فرضتها بروكسل، أخيراً، على نظام ألكسندر لوكاشينكو
هناك دلائل متزايدة على تراجع حدّة أزمة اللاجئين عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، بعدما نقلت طائرة أرسلتها الحكومة العراقية حوالى 430 من مواطنيها - غالبيتهم من الأكراد - كانوا عالقين في المنطقة الحدودية الفاصلة. وفيما سمحت القوات البيلاروسية بإيواء ألف آخرين في مستودع في الجوار، توقّفت شركات الطيران عن نقْل مسافرين عراقيين، أو سوريين، أو يمنيين، إلى مينسك، على متن رحلاتها المجدوَلة. وشهدت المنطقة الحدودية، هدوءاً حذِراً بعد أيّام من مواجهات، عنيفة أحياناً، بين آلاف اللاجئين من جهة، ومزيجٍ من تشكيلات قوى الأمن والجيش البولندي، ومواطنين بولنديين ذوي اتجاهات متطرّفة، من جهة أخرى. وبحسب مصادر متقاطعة، فقد قُتل عشرة من اللاجئين، على الأقلّ، بينهم أطفال، وبعضهم قضى برداً في مستنقعات، وسط مناطق كثيفة الأشجار - تُشكِّل فعليّاً ما يمكن تسميته بالجدار الشرقيّ للاتحاد الأوروبي - وتنخفض فيها درجات الحرارة إلى 20 درجة تحت الصفر.
ومع ذلك، حذّر وزير الدفاع البولندي، ماريوش بلاسزاك، من التفاؤل بنهاية سعيدة للأزمة، متوقّعاً أن تستمر المواجهة الحدودية إلى وقت «قد يمتدّ أشهراً». وترى السلطات البولنديّة أن بيلاروسيا لم توقف تدفُّق اللاجئين، وإنّما غيّرت تكتيكها في إدارة الأزمة، من خلال توجيهها مجموعات أصغر من الناس، تتكوّن كلّ منها من بضع عشرات الأشخاص، إلى نقاط متعدّدة، في وقت متزامن، على طول الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وبحسب تقارير الجيش البولندي، فإنّ ما يقرب من 200 محاولة اختراق للحدود تُسجَّل يومياً، منذ يوم الجمعة الماضي، ليتجاوز العدد الكلّي 25 ألف محاولة، هذا العام، مقارنة بـ120 في العام الماضي بأكمله. ويُعتقد بأن ما يتراوح بين خمسة آلاف إلى 25 ألفاً من اللاجئين ما زالوا قريبين من مناطق الحدود.
تأتي أزمة اللاجئين في موازاة حشد استثنائي للقوات الروسية على الحدود الغربية مع أوكرانيا


ويتّهم الغرب بيلاروسيا باختلاق أزمة اللاجئين، عبر منْح تسهيلات بالسفر إليها لمواطنين من دول شرق أوسطية، يرغبون في الهجرة إلى أوروبا الغربية. وفي هذا الإطار، تفيد تقارير صحافية بأن معظم هؤلاء يسافرون عبر شبكة من الوكالات السياحية المتواطئة، في العراق ولبنان وتركيا، ومن ثم يتم دفعهم في اتجاه الحدود الغربية مع بولندا، نحو دول الاتحاد الأوروبي. وقد نفت مينسك تلك الاتهامات، منتقدةً، في المقابل، «نِفاق الاتحاد لعدم استقباله اللاجئين». ومن جهتها، تُمارِس السلطات البولنديّة، بدعم من بروكسل، سياسةً متصلّبة تقضي بمنع عبور اللاجئين، وإعادتهم بالقوّة إلى حيث أتوا، في تعارُضٍ تام مع القانون الدولي. وفي هذا السياق، أرسلت حكومة وارسو، العديد من وحدات حرس الحدود المعزّزة، وقوات الجيش، ورجال الشرطة، وحتّى وحدات مكافحة الإرهاب، إلى نقاط تمركُزٍ على طول المناطق الفاصلة مع بيلاروسيا، إضافة إلى دورياتٍ لمتطوّعين من جماعات قومية يمينيّة متطرّفة، بينما تريد، الآن، بناء جدار عازل هناك، بتكلفة تصل إلى 350 مليون يورو. وفرضت الحكومة أحكام طوارئ خاصّة، فيما منعت المواطنين البولنديين، أو الأجانب، من تقديم يد المساعدة إلى اللاجئين، تحت طائلة الملاحقة القانونية. وقد سارعت ألمانيا وفرنسا إلى الإعراب عن تضامنهما مع الحكومة البولندية، كما دعا أعضاء في البرلمان الأوروبي إلى «تمويل تدعيم البنية التحتية الحدودية بين بولندا وبيلاروسيا، بوصفها حدوداً أوروبية». كذلك، أرسلت بريطانيا 150 جندياً لدعم إجراءات الجيش البولندي، ووضعت 600 آخرين على أهبّة الاستعداد للانتقال إلى هناك، عند الحاجة. أمّا الانتقاد الوحيد الذي وُجِّه إلى وارسو، فقد كان بسبب رفضها نشر قوات «فرونتيكس» على الحدود، وهي قوّة أوروبية مشتركة معروفة بسمعتها السيئة ووحشيتها المفرطة في التعامل مع اللاجئين على الحدود بين تركيا واليونان.
على الجهة البيلاروسية، يقول مطّلعون على الأوضاع، إن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو يستخدم مسألة اللاجئين الحسّاسة ليشنّ ما يشبه هجوماً مضادّاً على الاتحاد الأوروبي، الذي فرض عدّة حزَم من العقوبات على مينسك، بعدما أجهض النظام هناك «ثورة ملوّنة»، دعمتها الولايات المتحدّة، وكذلك ردّاً على الاتهامات التي وُجّهت للوكاشينكو بتزوير الانتخابات الرئاسية، عام 2020. وقد دعت زعيمة المعارضة، سفيتلانا تيخانوفسكايا، التي فرّت إلى ليتوانيا المجاوِرة، إلى «تعزيز عقوبات الاتحاد الأوروبي على نظام لوكاشينكو»، محذِّرة من أن خضوع بروكسل لضغوطه في مسألة اللاجئين، يعني تكريس سيطرته على السلطة في مينسك. لكنّ الأوروبيين ليسوا في وارد الاستماع إلى تيخانوفسكايا، أو غيرها، إذ إن الرئيس البيلاروسي هدّد، بوضوح، قبل عشرة أيّام، بأنّ عدم فتح حدود الاتحاد أمام اللاجئين قد يدفع بلاده إلى قطْع إمدادات الغاز التي تمرّ عبرها إلى أوروبا، في وقت تعاني القارّة من أزمة طاقة شديدة في عزّ موسم البرد.
وتأتي هذه الأزمة في موازاة حشد استثنائي للقوات الروسية عند الحدود الغربية مع أوكرانيا، قدّرته مصادر غربية بأكثر من 90 ألف جندي، مذكِّرة بحشدٍ مماثل في عام 2014، كان قد سبق ضمّ موسكو جزيرة القرم بالقوّة. ويخشى الغرب من نوايا الرئيس فلاديمير بوتين، في شأن المقاطعات شرق أوكرانيا، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية. كما تتّهمه الولايات المتحدة بالتواطؤ مع لوكاشينكو، في توظيف سلاح اللاجئين لثَنْي الأوروبيين عن ممارسة ضغوط لمصلحة المعارضة البيلاروسية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن نقلات بوتين هذه في شرق أوروبا، تضع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في ما يُشبه «المأزق». فالولايات المتحدة التي ترغب، بشدّة، في أن تتراجع روسيا، في هذه الأوقات، بالنظر إلى المصاعب الداخليّة التي تواجهها، وأيضاً في ظلّ برنامج شيطنة الصين الذي أصبح أولويّة استراتيجية لسياستها الخارجية، تجِد نفسها مضطرّة للتعامل مع أزمات جديدة، وضغوط على الحلفاء الأوروبيين يبتدعُها بوتين.