من بين صورٍ كثيرة تقترن بحوادث كبيرة ومؤثّرة، صورةٌ لشاب عاري الصدر يرتدي قبّعة مزوّدة بقرنين، بينما يقف متأهّباً داخل مبنى الكونغرس يوم السادس من كانون الثاني الماضي، في ما سيعرف لاحقاً بـ»غزوة الكابيتول»، أو اليوم الذي التأم فيه مجلس المشرّعين ليصادق على فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة. لعلَّ كثيرين خارج الصَرح العريق، ومنهم «ذو القرنين» - كما تُطلق عليه وسائل الإعلام العالمية -، ظنّوا أن في مقدورهم عكس «القَدَر»، وتصعيد دونالد ترامب مرّة أخيرة إلى سدّة الرئاسة، من دون أن يفلحوا، وإن كان احتمال عودته اللاحقة لا يزال يؤرّق فريق الرئيس الحالي المتراجعة شعبيته إلى مستويات قياسية. على أيّ حال، طلب الادّعاء العام الفيدرالي عقوبة السجن 51 شهراً لجايكوب تشانسلي الملقّب أيضاً بـ»شامان كيو آنون» و»ذي القرنين»، من دون أن تبيّن نهاية واضحة لقضيّة لا تفتأ تشغل أميركا منذ ما قبل تولّي بايدن منصبه، وما رافق صعوده من أزمات واتهامات بالتزوير هزَّت صورة «الديموقراطية» كما لم تفعل أيّ حادثة أخرى.قبل أسبوع بالتمام، عاد ملفّ اقتحام «الكابيتول» مجدَّداً إلى الواجهة، بعد سماح قاضية المحكمة الابتدائية في مقاطعة كولومبيا، تانيا تشاتكان، للبيت الأبيض، بتسليم لجنة برلمانية تحقِّق في ملابسات الحادثة، وثائقَ تتعلّق بالدور المُحتمل لدونالد ترامب في الهجوم، على رغم محاولات الرئيس الجمهوري السابق الإبقاء على سرّيتها. وفي حُكمها، علّلت القاضية قرارها بـ»المصلحة العامة» التي تقتضي، بحسبها، «تأييد، وليس إعاقة، الإرادة المشتركة للسلطتَين التشريعية والتنفيذية بدراسة الحوادث التي أدّت إلى أحداث السادس من كانون الثاني، والنظر في إمكانية سَنّ تشريع يمنع تكرار مثل هذه الأحداث مرّة جديدة». لم يُعِر ترامب كثير اهتمام للقرار، بل ركن إلى مبدأ قانوني يُعرف بـ»الحصانة التنفيذية» لحماية سرّية اتصالات البيت الأبيض في عهده، وإبقائها بعيداً من متناول اللجنة النيابية الخاصّة التي يغلب عليها الديموقراطيون.
في حال طال أمد القضيّة ستذهب في النهاية إلى المحكمة العليا المحافِظة للبتّ في صلاحيات الرئيس

قانونٌ دفع محاميه إلى استئناف قرار تشاتكان، كون الحصانة تقع ضمن اختصاص محاكم الاستئناف. نجح فريق الدفاع، موقّتاً، في خطوته الهادفة أوّلاً وأساساً إلى شراء الوقت، فوافقت محكمة استئناف فيدرالية، الخميس الماضي، على طلبه تعليق نشْر الوثائق الرئاسية، لكنّها شدَّدت، في الوقت ذاته، على أن قرارها «لا ينبغي أن يُفسَّر، بأيّ حال من الأحوال، على أنه قرار في أساس القضيّة»، محدّدةً الـ30 من الشهر الجاري موعداً لجلسة الاستماع. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الوثائق التي وافق بايدن على تسليمها للجنة التحقيق الخاصّة، تقع في أكثر من 770 صفحة، وتضمّ ملفّات كبير موظّفي البيت الأبيض السابق مارك ميدوز، وكبير مستشاري ترامب السابق ستيفن ميللر، ومساعد مستشاره السابق باتريك فيلبين. ومن بينها أيضاً مذكّرات إلى سكرتيرة ترامب الصحافية السابقة كايلي ماكناني، وأخرى مكتوبة بخطّ اليد حول حوادث السادس من كانون الثاني، ومسودة نصّ خطابه خلال تجمّع «أنقذوا أميركا» الذي سبق الهجوم.
لا شكّ في أن عملية الشدّ والجذب هذه، التي بدأت للتوّ، ستتواصل في مقبل الأيّام، فيما سيستمرّ ترامب في محاولته كسب الوقت بما يصبّ في مصلحته قبل حلول موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 2022، والتي إذا نتجت منها هيمنة الجمهوريين على المجلسَين أو أحدهما، وهو أمر وارد نظراً إلى تراجع شعبية الديموقراطيين، ستعني انتهاء التحقيق، وإغلاق صفحة اقتحام الكونغرس. مع هذا، مثّل قرار القاضية تشاتكان اختباراً هو الأوّل لقدرة ترامب على استخدام نظام المحاكم لتحدّي الكونغرس، حين لا يكون محميّاً من مكتب الرئاسة نفسه. وهو قرار - في حال نفاذه لاحقاً - ستمتدّ آثاره إلى كل الرؤساء السابقين، وإلى صلاحياتهم بعد مغادرتهم منصب الرئاسة. لكن استئناف الرئيس السابق للحكم فور صدوره، وتمكّنه من طلب أمر قضائي بوقف عملية تسليم الوثائق، ريثما ينتهي نظر الحكم في الاستئناف، يعني أيضاً احتمال أن يطول أمد القضيّة، وأن تذهب في النهاية إلى المحكمة العليا المحافِظة، والتي سيعوِّل عليها في تحديد مدى صلاحياته الواقعة تحت مبدأ «الحصانة التنفيذية». ولأنه معروف بـ»التسلسل في القضايا»، يهدف ترامب في الواقع إلى «إنفاد الوقت أمام اللجنة». وكان الناطق باسمه، تايلور بودويتش، غرد بعد الحكم، قائلاً إن «القرار يمثِّل انتكاسة موقّتة في عملية طويلة». وكتب: «معركة الدفاع عن الحصانة التنفيذية للرؤساء، في الماضي والحاضر والمستقبل، منذ بدايتها، كان مصيرها أن تقرّرها محاكم الاستئناف. الرئيس ترامب لا يزال ملتزماً بالدفاع عن الدستور ومكتب الرئاسة، وسوف نتابع هذه العملية حتى نهايتها».

وجّه القضاء الأميركي إلى ستيف بانون تهمة «عرقلة» صلاحيات الكونغرس في التحقيق(أ ف ب )

إزاء كل ما سبق، تواصل لجنة التحقيق الخاصة بعْث الرسائل إلى ترامب، آملةً في أن تصل إلى غايتها بالحصول على الوثائق السريّة. إذ وجّه القضاء الأميركي رسميّاً إلى ستيف بانون، حليف ترامب ومستشاره الاستراتيجي السابق - والُملاحَق بتهمتَي رفْض الإدلاء بشهادته، ورفْض تقديم وثائق إلى اللجنة -، تهمة «عرقلة» صلاحيات الكونغرس في التحقيق، في رسالة واضحة إلى الشهود الآخرين الذين قد يتجاهلون دعوات المثول أمام اللجنة. وقال الرئيس الديموقراطي للجنة التحقيق، بيني تومسون، إن توجيه الاتهامَين «يفترض أن يبعث رسالة واضحة إلى جميع الذين يعتقدون أن في إمكانهم تجاهل اللجنة أو محاولة عرقلة تحقيقنا، مفادها بأن لا أحد فوق القانون».