تعكس ظاهرة إريك زيمور، المُساجل الرجعي الذي يحتلّ الفضاء الإعلامي في فرنسا اليوم، انزياحاً نحو اليمين في المشهد الفكري والسياسي في هذا البلد، وكذلك في المجتمع بأسره. إذ وفقاً لاستطلاع للرأي أجراه مركز «إيلاب»، ونُشر في 27 تشرين الأول 2021، فإن زيمور حصل على ما بين 15 و16% من نوايا التصويت في فرنسا، ما يضعه في مرتبة ثالثة بعد مارين لوبين (19%)، وإيمانويل ماكرون (ما بين 23 و26%)، ويُعدّ تقدّماً ملحوظاً في معدّلات شعبية المرشّح غير الرسمي حتى اللحظة، والذي يحظى، على رغم ذلك، بتغطية إعلامية واسعة، بفعل مداخلاته وأطروحاته المستلهَمة من نظرية «الاستبدال الكبير»، التي تلقى صدًى متزايداً في أوساط الرأي العام. في كتابه «التشوّش الكبير: كيف يفوز اليمين المتطرّف في المعركة الفكرية»، يلفت فيليب كوركوف، أستاذ العلوم السياسية الفرنسي، والذي يُعرّف المحافَظة المتشدّدة، على أنها توليفة بين جملة من المقولات العنصرية ينجم عنها مفهوم إثني للأمة، إلى أن زيمور هو أحد أبرز الدعاة الإيديولوجيين لنموذج فرنسي وهمي. وكان المؤرّخ الفرنسي، جيرار نوارييل، في كتابه «دسّ السم في الحبر»، شبّه زيمور بإدوارد درومون، أحد أقطاب اليمين المتطرّف في هذا البلد في مرحلة الجمهورية الثالثة، مشيراً إلى كيفية استغلال الرجلين لسياق عام ملائم لمعركتهما الإيديولوجية؛ فكلاهما من أصول اجتماعية متواضعة، ويَعتبران أن ترقّيهما هو نوع من الانتقام من النظام الاجتماعي السائد، وقد ارتبطت شعبيّتهما بمراحل احتدام أزمات اقتصادية واجتماعية ونفور كبير من النظام البرلماني. وبينما يَعتبر درومون أن خطر «الاستبدال الكبير» تُجسّده النخب اليهودية الفرنسية المهيمنة بنظره على النظام المصرفي والسياسي والإعلامي، فإن زيمور، من جهته، يرى أن مصدر هذا الخطر هو الطبقات الشعبية ذات الأصول المهاجرة. وهو يجزم أن المهاجرين المسلمين، العرب والأفارقة، يفرضون قوانينهم في الضواحي، ما يمثّل تهديداً قاتلاً بالأسلمة بالنسبة إلى فرنسا.
لا تأتي أطروحات زيمور بأيّ جديد بعُرف المؤرّخ الفرنسي، بل تمثّل استمرارية للخطاب الرجعي التقليدي حول التاريخ. وعلى الرغم من العدد الكبير من الكتب والدراسات العلمية التي تدحض، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، نظرية «الاستبدال الكبير»، فإن هذه النظرية لا تزال تجد رواجاً جدّياً في صفوف الفرنسيين، بسبب جنوح الإيديولوجيا السائدة نحو المحافَظة المتشدّدة. ولا شكّ في أن تبنّي قطاعات وازنة من المثقفين للإيديولوجيا «النيو-جمهورية»، التي تَفترض أن نموذج المجتمع المتعدّد ثقافياً قد فشل، والمطالبة بالعودة إلى سياسات الاندماج القسري، والدفاع عن مفهوم إقصائي للعلمانية، قد لعب دوراً حاسماً في مثل هذا الجنوح. إريك زيمور، الذي تعود شهرته لا إلى كونه مثقفاً بل نتيجة حضوره الإعلامي الطاغي، استطاع أن يوظّف لمصلحته قسماً معتبراً من تلك الأفكار الرائجة، وبات أوّل المستفيدين من انزلاق المشهد السياسي يميناً.
وكانت مسألة موقع الإسلام في المجتمع الفرنسي قد سعّرت التناقضات داخل الحركات اليسارية، كاشفةً مدى تأثير الإيديولوجيا السائدة على المستوى الفكري - السياسي في البلاد. وللمسألة المشار إليها صلة وثيقة بموضوعات محورية أخرى كالعلمانية والصراع العربي - الإسرائيلي، وتشي النقاشات حولها بتجذّر أطروحات اليمين المتطرّف العنصرية والمعادية للإسلام، حتى داخل قوى اليسار. وبفضل التحليلات المضلّلة والمختزلة للوقائع، من قِبَل رهط من المثقفين، بات الخطاب العنصري ينتشر في قطاعات لا يُستهان بها من الرأي العام. ويسهم انسياق شرائح من الطبقات الشعبية، تعاني من مظالم وعنف النظام الرأسمالي، خلف هذه التصوّرات السائدة، في دينامية الانزياح نحو اليمين للمجتمع برمّته.
يستطيع إريك زيمور، الذي أدين مراراً أمام القضاء بتهمة التحريض على الكراهية، في مثل هذا السياق، أن يحذّر من «الديمغرافيا الإسلامية المتضخّمة في الأحياء الشعبية والتي تولّد مجتمعات مضادّة»، وأن يصوّر المهاجرين على أنهم «غزاة يريدون فرض نمط حياتهم على بلدنا»، أو أن يطلق دعوات لإعادة «فرنسة» فرنسا عبر طرد المسلمين، من دون أن يُنظر إلى مواقفه على أنها تحريض عنصري، بل مجرّد آراء قابلة للنقاش. لقد شاركت النخب السياسية والثقافية، من خلال نشر الإسلاموفوبيا والتبشير بسياسات الهُوية، في تهيئة الأرضية المناسبة لصعود ظاهرة إريك زيمور، الذي لا يعدو كونه منتَجاً صافياً لوسائل إعلام ما زالت منبراً لبثّ سمومها الفتّاكة.