أديس أبابا | دخلت إثيوبيا مرحلة اللاعودة في الصراع الدائر بين الحكومة برئاسة آبي أحمد، وجبهة «تحرير شعب تيغراي». مرحلةٌ أنبأت بها عوامل عدّة برزت نهاية الأسبوع الماضي، على رأسها رفْض أحمد خارطة طريق أميركية لحلّ الأزمة، وتهديده بأن «الشعب الإثيوبي سيدافع عن وحدة البلاد وسيادتها»، ودعوة الجيش الإثيوبي الاحتياط إلى الالتحاق بصفوفه، في مقابل تشكيل تحالف يضمّ 9 فصائل مسلحة، من ضمنها قوات تيغراي، لإطاحة الحكومة بالقوّة أو بالمفاوضات، وتشكيل حكومة انتقالية. ومع استمرار المعارك بين الجانبين، وتقدّم قوات تيغراي جنوباً نحو العاصمة، تَبرز أدوار القوى الإقليمية والدولية في تغذية هذا الصراع، كلٌّ وفق حساباته، بعدما كان لها سهمها في إيصاله إلى إحدى أكثر مراحله خطورة، والتي باتت تُهدّد مستقبل الدولة برمّتها.فبحسب تقارير سابقة، فإن أطرافاً عربية شاركت في شنّ غارات جوّية باستخدام الطائرات المسيّرة، على مواقع «جبهة تيغراي»، لدعم الجيش الإثيوبي وحلفائه، وهو ما أسهم في إضعاف قدرات المتمرّدين، وتشتيتهم في المناطق الجبلية، وبالتالي تسهيل دخول القوّات الإثيوبية إلى الإقليم، والسيطرة على مدنه الرئيسة، بما فيها عاصمته مكللي، في 28 تشرين الثاني 2020، حيث أعلن آبي أحمد «الانتصار». في المقابل، سُجّلت تدفّقات مالية كبيرة من أطراف عربية أخرى، في أواخر صيف العام الماضي، نحو مؤسّسات غير نفعية ذات ارتباطات خليجية، يُرجّح أن تكون موجّهة لتمويل أنشطة المعارضة. وعلى إثر ذلك، سارعت الحكومة الإثيوبية إلى تغيير عملتها، بهدف الحدّ من الأنشطة المالية التي اعتبرتها مضرّة بـ«الاقتصاد الوطني»، وشلّ حكومة تيغراي عبر إعاقتها عن الوفاء بالتزاماتها المالية، وهو ما نتج منه تدهور ملحوظ في قيمة العملة، بنسبة رَاوحت ما بين 50 و100%، بالإضافة إلى إسهام الإنفاق العسكري الكبير على الصراعات الداخلية، في تراجع نموّ الاقتصاد الإثيوبي بنسبة 3% عن العام السابق.

الحضور الصيني
مثّلت جبهة «تحرير شعب تيغراي» حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، نظراً إلى صراعها المباشر مع الحُكم الشيوعي الذي كان يدير البلاد خلال عهد منغستو هيلا مريام. إلّا أن رئيس الوزراء الأسبق، ملس زيناوي، عمل على استثمار التوجّهات الاشتراكية السابقة لحركته، في بدء تقارب مبكر مع الصين، من خلال الزيارات الرفيعة المتبادلة في عامَي 1995 و1996. وفتح هذا التقارب آفاقاً كبيرة نحو التعاون في مشاريع كانت إثيوبيا في حاجة ماسّة إليها، فيما لم تُسجّل آنذاك مقاومة غربية لتلك التحرّكات، بل اعتُبر تعاون أديس أبابا - بكين تعزيزاً لقوّة الدولة الإثيوبية الصديقة. إلّا أن تنامي الحضور الصيني في إثيوبيا، توازياً مع تصاعد الصراع الصيني - الأميركي، قرع جرس إنذار لدى واشنطن وحلفائها الغربيين، ودفعها إلى الضغط على الحكومة الإثيوبية للحدّ من ارتباطها الوثيق بالمصالح الصينية. وتُعدّ بكين، اليوم، من أهمّ مموّلي مشاريع الحكومة الإثيوبية، وعلى رأسها سدّ النهضة وسكّة الحديد الإثيوبية - الجيبوتية، كما أنها دائنة لأديس أبابا بـ13.7 مليار دولار أميركي ما بين عامَي 2000 و2019، أي بما يقارب 13% من الدخل المحلّي للأخيرة، وفقاً للبيانات التي جمعتها «مبادرة أبحاث الصين وأفريقيا» (CARI) ومؤسّسات بحثية أخرى، والتي تُظهر سعي إثيوبيا إلى الحصول على تمويل صيني إضافي بقيمة 3 مليارات دولار.
ثمّة مساعٍ غربية واضحة لدفع الحكومة الإثيوبية بعيداً عن التأثير الصيني مهما كان الثمن


التحرّك الأميركي
إزاء ذلك، سعت الولايات المتحدة والدول الغربية إلى استمالة آبي أحمد، عبر دعمه مع حلفائه في مساعيه لإحلال السلام بين بلده وإرتيريا، وما تلاه من منحه «جائزة نوبل للسلام»، بل وتقديم الدعم غير المباشر لقوّاته في الصراع داخل إقليم تيغراي. وفي هذا الصدد، يشير المحلّل في الشأن الإثيوبي، حسين محمد سويان، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «حجم الاستثمار الأميركي في إثيوبيا على مدار السنوات العشرين الماضية، بلغ أكثر من 13 مليار دولار من المساعدات الإجمالية، منها أكثر من 4 مليارات دولار في السنوات الخمس الماضية فقط». بيد أن حجم المصالح الإثيوبية مع الصين، بدا أكبر بكثير مما قدّمته وتقدّمه الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما أن حجم النفوذ الصيني في مفاصل السياسة والاقتصاد الإثيوبيَيْن أصبح كبيراً، وهو «ما تسبّب بتراجع الدفء في العلاقات الإثيوبية الأميركية»، بحسب سويان. ويلفت المحلّل إلى أن «التدفقات المالية الأميركية أسهمت بشكل كبير في تقدّم الاقتصاد الإثيوبي»، مستدركاً بأن «اشتراط الدعم بإصلاحات في مجالات تَعتبرها الحكومة الإثيوبية حسّاسة للغاية، كحقوق الإنسان وحرية التعبير والجندر، جعل المساهمة الأميركية تفقد قدراً كبيراً من أهميتها، فيما سبقتها دول عديدة لا تهتمّ كثيراً بإحداث أيّ من تلك التغييرات، كالصين والمملكة العربية السعودية وتركيا والهند وروسيا».
ومع استمرار الضغط الأميركي والمماطلة الإثيوبية، وازدياد قوّة مناوئي حكومة آبي أحمد، أقدمت الولايات المتحدة على طلب مغادرة أعضاء سفارتها ومواطنيها الأراضي الإثيوبية، خاصة في ظلّ تقدّم المتمرّدين نحو العاصمة، توازياً مع تكثيف الاتهامات الأميركية لأديس أبابا بارتكاب تجاوزات بحقّ المدنيين في إقليم تيغراي، وتنفيذ واشنطن تهديدها الذي ما انفكّت تلوّح به لناحية إيقاع عقوبات على إثيوبيا. وممّا يُستخلص من ذلك كلّه، وجود مساعٍ غربية واضحة للدفع بالحكومة الإثيوبية بعيداً عن التأثير الصيني، مهما كانت الوسائل، وأيّاً كانت التداعيات.