لم تكد حركة «طالبان»، التي دأبت على مدى السنوات الأخيرة على اتّهام الحكومة الأفغانية بالقصور وقلّة الكفاءة في إرساء الأمن، تتسلّم السلطة قبل أكثر من شهرين، حتى باغتتها عدّة هجمات انتحارية، أحدثها الهجوم الدامي الذي استهدف مسجداً للشيعة في ولاية قندوز، وأسفر عن قتل وجرح ما يزيد عن 150 شخصاً، وهو ما اعتُبر مؤشّراً إلى استيقاظ مارد التدهور الأمني في البلاد بعد وصول الحركة إلى سدّة الحُكم، ودليلاً على مدى قدرة تنظيم «داعش»، تحديداً، على زعزعة الأمن والاستقرار. وكان ما يُراوح بين ثمانية وعشرة آلاف مقاتل أجنبي، ينتمي بعضهم إلى «القاعدة» والآخر إلى «داعش»، دخلوا أفغانستان في وقت سابق، بينما لا يزال الغموض يكتنف علاقة «طالبان» بالمجموعات «الجهادية» المنافِسة، توازياً مع تفاقم مخاوف الكثير من الدول من تحوّل هذه الدولة إلى ملاذ لإعادة إنتاج الإرهابيين الدوليين، وتصديرهم إلى المنطقة وخارجها. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن عدول الحركة عن توجّهاتها المتطرّفة، يفاقم خطر انفصال مقاتليها عنها والتحاقهم بالمجموعات الأكثر تطرّفاً. كما أن استمرار الحرب بينها وبين «جبهة المقاومة الوطنية» من شأنه أن يستحثّ مجموعات قتالية مِن مِثل «داعش» و«القاعدة» على خوض القتال. كذلك، ثمّة أجنحة ذات رؤى متباينة داخل «طالبان»، وعلى رأسها تيّارا البشتون «دوراني» و«غلزاي»، فضلاً عن أن القيادات الوسطية قد تُعارض نقْل جزء من السلطة أو القرارات المهمّة منها. ويُضاف إلى ما تقدّم أن الألوف من قوات «طالبان»، من غير عرقيّة البشتون، قد يغيّرون توجّهاتهم لأسباب مختلفة، وينسحبون من الحركة، ليفاقموا التحدّيات الماثلة أمامها.
تحدّيات بالجملة
تتصدّر المشاكل الأمنية التي تواجهها «طالبان»، «جبهة المقاومة الوطنية» الأفغانية بقيادة أحمد مسعود، إذ على رغم القمع الذي تعرّضت له الأخيرة، إلا أنها لا تزال تحتفظ بجانب من قدرتها كنار تحت الرماد. ومن الناحية العسكرية، فإن من الصعوبة بمكان السيطرة التامّة على وادي بنجشير، معقل الجبهة، علماً أن هذه المنطقة لم ترزح للاحتلال السوفياتي قبل ذلك. والآن، وعلى رغم إعلان «طالبان» انتصارها هناك، إلا أن المقاومة، بشكلَيها الكلاسيكي وحرب العصابات، لا تزال مستمرّة في بنجشير والولايات المحيطة بها، بما فيها بغلان. وفي حال لم تثمر المحادثات الرامية إلى تشكيل حكومة موسّعة، فإن «جبهة المقاومة»، ستُشكّل إلى جانب أمر الله صالح، النائب الأوّل للرئيس الأفغاني السابق والذي يَعتبر نفسه رئيساً شرعياً لأفغانستان بعد تنحّي محمد أشرف غني عن الرئاسة، تحدّياً رئيساً لـ«طالبان». وإن استعاد معارضو الحركة أجزاءً من بدخشان وتخار وبروان، فإن في مقدورهم إيجاد مزيد من التواصل الخارجي مع طاجيكستان والهند، وهو ما يولّد احتمال استعادة كابل أيضاً. وفي هذا الإطار، يبرز تشكيل المعارضين حكومة في المنفى - طاجيكستان تحديداً - بالتعاون مع الجسم العسكري لـ«جبهة المقاومة»، إلى جانب الضباط والجنرالات السابقين من قوات الأمن والدفاع الوطني الأفغاني، وأيضاً كبار مسؤولي وزارتَي الداخلية والدفاع، وهو ما شأنه توسيع دائرة المخاطر. وعلى رغم أن «طالبان» اعتبرت تلك الخطوة «عديمة الجدوى»، إلّا أنه إن لم تتمكّن الحركة من تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة تضمّ العرقيات والطوائف كافة، فإنها لن تكون قادرة على معالجة التحدّيات الأمنية، فيما سيكون عليها أيضاً تبديد هواجس الخارج، ومجاراة السياسات الأمنية لمعظم اللاعبين الأجانب في أفغانستان.
إن استعاد معارضو الحركة أجزاءً من بدخشان وتخار وبروان، سيكون في مقدورهم التواصل مع طاجيكستان والهند


كذلك، إن لم تتمكّن «طالبان» من إثبات قدرتها على تقديم الخدمات والأمن للناس، فإن شرعيّتها ستهتزّ، وسيتنامى التذمّر المجتمعي منها، وهو ما يولّد تهديد اندلاع انتفاضة ضدّها، خصوصاً أن السكّان في كثير من المناطق مزوّدون بالسلاح منذ ما قبل وصول الحركة إلى السلطة. وفي ضوء هكذا ظروف، والدعم الذي تقدّمه تيارات وشخصيات مِن مِثل «الجمعية الإسلامية» وصلاح الدين رباني وعبد الرشيد دوستم وعطا محمد نور...، للمعارضين، فإن هؤلاء قد يتمكّنون من التقاط الأنفاس مجدّداً. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن الاتهامات المُوجَّهة إلى «طالبان» في شأن قتل المدنيين وانتهاك حرمة المنازل وحقوق الإنسان، يمكن أن توسّع نطاق الاحتجاجات، وتنقل المعارضة إلى قطاعات صامتة من الجماهير. وفي هذا الخضمّ، فإن قوات الجيش الأفغاني التي تنحّت جانباً بعد سيطرة الحركة على البلاد، يمكن أن تتحوّل إلى إحدى الطاقات الجادّة لتعزيز جبهة المعارضة. وكانت قيادة القوات الجوية الأفغانية قد أوعزت سابقاً بنقل قسم من الطائرات إلى طاجيكستان وأوزبكستان، لينتقل ما مجمله 62 طائرة إلى الدولتَين المذكورتَين، قادمة من قاعدتَي مزار شريف وكابل الجوّيتَين. ولذا، فإن «طالبان» قد تتكبّد كلفة باهظة لإعادة بناء البنية العسكرية للدولة، فيما يتقدّم احتمال عودة العسكريين إلى انتماءاتهم العرقية والقبلية، وتولّيهم قيادة ميليشيات محلّية. وعلى رغم أن وقف الولايات المتحدة الدعم اللوجستي للجيش الأفغاني، والإسناد الجوّي للطائرات المسيّرة في الحروب البرّية، عاد بالفائدة على «طالبان»، بيد أن تلك الفائدة يمكن أن تنقلب رأساً على عقب، لتتحوّل بقايا الجيش وقوات الأمن إلى تحدّ مهمّ بالنسبة إلى الحركة. ووسط كلّ هذه المعضلات، فإن الخطر المتمثّل في وجود ثلاثة ملايين لاجئ، وحاجة نحو 14 مليون شخص إلى المساعدة، وارتفاع حالات الإصابة بـ«كوفيد - 19»، يُعدّ مشكلة كبرى إضافية، سيتعيّن على «طالبان» إيجاد حلول لها.

* خبیر وباحث في الشؤون الأفغانية في طهران