لم يكن رئيس وزراء العدو، نفتالي بينت، ليفوّت عليه فرصة المثول أمام الأمم المتحدة، وهو المسكون بهاجس إثبات أهليّته لقيادة الكيان الإسرائيلي في مواجهة التحدّيات الداخلية والإقليمية. في الشكل، أظهر تمايزاً عن سلفه بنيامين نتنياهو، لناحية تجنّب الاستعراضات. لكن في المضمون، لم يخرج عن السقف المكرَّر منذ سنوات على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، وإن حاول أن يبدو أكثر حزماً. ومردّ ذلك أن حجم التهديد المحدق بالكيان تصاعد إلى مستويات غير مسبوقة، بعدما فشلت كل المساعي الأميركية والإسرائيلية لإحباط تقدّم البرنامج النووي الإيراني. لكن بينت تجاهل، خلافاً لنتنياهو، القضية الفلسطينية، في موقف ينطوي على أكثر من رسالة داخلية وخارجية.حملت مقاربة بينت للتطور الذي بلغه البرنامج النووي الإيراني إقراراً مباشراً بفشل الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية المشتركة في إخضاع إيران، أو تليين مواقفها، أو ردعها عن خياراتها النووية والعسكرية والإقليمية. وهو أمر يُجمع عليه أغلب المراقبين والخبراء والمسؤولين الإسرائيليين، مع فارق لا يستشعر حرجاً شخصياً في الاعتراف به، على اعتبار أنه لم يكن شريكاً في بلورة السياسات التي أدّت إليه، وأنه ورث هذا الفشل من سلفه، ويحاول الحدّ من أضراره وخسائره. ولذا، فهو يحاول تأكيد أهليّته لمواجهة ذلك التحدّي، الذي تحوّل إلى معيار رئيس في الحكم على كفاءة أيّ من القادة الإسرائيليين.
طرح بينت أسئلة صريحة تعبّر عن هواجس حقيقية بالنسبة إلى إسرائيل: هل وصلت إيران إلى حافة الدولة النووية؟ وفي حال وصولها، هل ثمّة خيارات لمنعها من مواصلة هذا المسار، وما هي كلفتها وجدواها؟ هل لدى إسرائيل قدرة عسكرية على مهاجمة البرنامج النووي الإيراني؟ وماذا عن موقف الولايات المتحدة؟ باختصار، هل يمكن القول، كما يرى رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، بأن «هناك احتمالاً كبيراً لأن تكون الخيول قد هربت من الإسطبل»، أم أنه لا تزال هناك، كما يرى رئيس أركان الجيش السابق ووزير الأمن السابق موشيه يعلون، إمكانية لوضع إيران أمام خيارين: إمّا التخلي عن البرنامج النووي، أو إسقاطه؛ وهو توصيف يستهدف، على ما يبدو، إقناع الولايات المتحدة بالإقدام على خيارات دراماتيكية لم يجرؤ أيّ من الرؤساء السابقين عليها، لكن كيف الآن وقد تغيّرت كثيراً معادلات القوّة، وتبدّلت أولويات واشنطن التي تسرّع وتيرة تحويل اهتماماتها باتجاه المحيطَين الهادئ والهندي. في السياق نفسه، اتفق رئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت، مع باراك، لجهة التأكيد أنه ليس لدى إسرائيل خيار عسكري تقليدي من أجل القضاء على عناصر التهديد النووي الإيراني، معتبراً أن مروحة متنوعة من العمليات بإمكانها تقويض الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الإيراني. و»معركة كهذه تستوجب تعاوناً وثقة وضبط نفس من جانب إسرائيل، ونمطَ عملٍ تنسيقيّ مع الولايات المتحدة أولاً»، في إشارة إلى أن المعركة طويلة، وأنه لا فرصة لخيارات دراماتيكية، وهو ما يَظهر أن واشنطن تتبنّاه أيضاً. من جهته، كان بينت صريحاً ومباشراً في الاعتراف بأن إيران «تجاوزت كل الخطوط الحمر»، محذراً من أنها بلغت مرحلة حرجة، وكذلك «صبر إسرائيل» إزاءها، في تعبير إضافي عن مدى حراجة موقف تل أبيب وضيق خياراتها.
بدا لافتاً تعمّد بينت تجاهل القضية الفلسطينية، وهو ما لا يتلاءم مع خلفيته الأيديولوجية ومواقفه المتطرّفة


في الموضوع الفلسطيني، بدا لافتاً تعمّد بينت تجاهل القضية الفلسطينية، وهو ما لا يتلاءم مع خلفيته الأيديولوجية ومواقفه المتطرّفة التي في الظاهر قد تبدو على يمين نتنياهو، إلا أنه على المستوى العملي لا يختلف الرجلان كثيراً. والظاهر أن هذا التجاهل يمثّل، في أحد وجوهه، نوعاً من الضغط على الطرف الفلسطيني، بخاصة أنه أتى بعد حديث رئيس السلطة، محمود عباس، عن مهلة أمام إسرائيل للانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، خلال عام واحد. مع ذلك، فإن هناك مجموعة من الاعتبارات الداخلية والأميركية قد تكون دفعته إلى اختيار التجاهل من بين مجموعة بدائل سيبدو فيها كمَن يسير على حدّ تفجير خلاف مع أحد الطرفين، بعض شركاء الحكومة أو إدارة جو بايدن، فضلاً عن أنه يخضع لرصد متواصل من قِبَل رئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو. المعروف عن بينت معارضته الشديدة لمبدأ الدولة الفلسطينية، وأنه صاحب شعار ضمّ «مناطق ج» التي تشكل 60 في المئة من الضفة الغربية إلى إسرائيل. في ضوء ذلك، فإن إبداء أيّ مرونة من قِبله، ولو لفظية، سيُثير ضدّه خصومه من اليمين الإسرائيلي. في المقابل، فإن تظهير موقفه الأيديولوجي كان سيثير خلافات داخل الحكومة وفي مواجهة إدارة بايدن، في الوقت الذي بعث فيه من على منبر الأمم المتحدة رسائل حول تماسك ائتلافه الحكومي الذي أوقف مسلسل الانتخابات المفتوحة واللااستقرار الحكومي.
أيّاً كانت الرسائل التي يحاول قادة إسرائيل إيصالها، فالحقيقة الثابتة التي انتقلوا إلى مرحلة الإقرار العلني والمباشر بها، هي تحوّل معادلات القوة في المنطقة. ولعلّ واحداً من أبرز تجليات هذا الإقرار، هو تحذير بينت من الخطر المتصاعد للطائرات المسيّرة الإيرانية، ومن أن الجمهورية الإسلامية تعمل على تزويد حلفائها بالمئات من المسيّرات من النوع الفتّاك ولاحقاً بالآلاف، في مؤشر إلى تقدير الأجهزة المختصة في كيان العدو لِمَا ينتظر إسرائيل خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو أكثر ما تخشاه تل أبيب، إلى جانب التهديد النووي المتصاعد.