على مدى عقود، شكَّل الكونغرس الأميركي، بغرفتَيه وحزبَيه، طوق نجاة لإسرائيل، ومدافعاً أوّل عن مصالحها وأمنها وتفوّقها في محيطها. فأعلن، في عام 2008، أن هذا الكيان، سيتمكّن بفعل تفوّقه العسكري النوعي، الذي توفّره له الولايات المتحدة، من «إطاحة أيّ تهديد تقليدي من أيّ دولة منفردة، أو تحالف عدّة دول، أو عدّة مجموعات وتنظيمات غير دولية». ليست الأيديولوجيا، بطبيعة الحال، ما يحكم هذا التوجُّه، فرَفْض تقنين «المساعدات»، في موازاة العمل الدؤوب على زيادة الإنفاق العسكري، عبر إدامة النزاعات الخارجية والحروب وتغذيتها، له خلفيات أخرى، تفسّرها الروابط العميقة بين الحكومة والقطاع الخاص، أو ما أَطلق عليه الرئيس دوايت أيزنهاور، يوماً، «المجمع الصناعي العسكري».لكنْ ثمّة اعتراض بدأ يتنامى داخل أروقة الكونغرس، إزاء الدعم العسكري الأميركي غير المشروط لإسرائيل، ليفتح باباً للنقاش في خلفياته وتداعياته، ولا سيما بعدما عمد مجلس النواب، بدفع من بعض أعضائه الديموقراطيين، إلى شطب بند المساعدة المالية الاستثنائية لمنظومة «القبّة الحديدية» (تنتج شركة «ريثيون» الأميركية معظم مكوّناتها) من مشروع قانون الموازنة العامّة الأميركية (سيصار إلى إقرارها في قانون منفصل)، وقبلها اشتغال هؤلاء على إلغاء صفقة سلاح لتل أبيب بقيمة 735 مليون دولار، وافقت عليها إدارة جو بايدن إبّان العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، في أيار الماضي. وعلى رغم أن الإدارة الحالية لم تَحِد عن سياسة «الدعم المطلق» لإسرائيل، والتزمت، كما سابقاتها، بضمان التفوّق العسكري النوعي لتل أبيب والحفاظ على أمنها، وهي سياسة تنسجم مع قناعات بايدن، ومع مذكّرة التفاهم العشرية التي وقّعتها إدارة باراك أوباما في عام 2016، إلّا أن «انقسام» الحزب الديموقراطي حيال هذا التوجّه بدأ يؤرق البيت الأبيض و«البنتاغون»، اللذين أنهيا للتوّ انسحاباً عسكريّاً مهلهلاً من أفغانستان، حيث أنفقت الولايات المتحدة ما يزيد على تريليونَي دولار (أغلبها نفقات عسكرية)، في «حربها على الإرهاب»، والتي يقول الكاتب إريك ألترمان إن الفائز الوحيد فيها هم «الجنرالات السابقون والأدميرالات وغيرهم من المتعاقدين الدفاعيين الذين كسبوا الملايين من ورائها».
تشكّل المساعدات الأميركية لإسرائيل 55% من مجمل مساعدات الولايات المتحدة لبقية دول العالم


تعكس المساعدات الأميركية المخصّصة لإسرائيل رغبةً في تعزيز قوّتها، والحفاظ على تفوّقها العسكري النوعي في جوارها. إذ تتلقّى إسرائيل، منذ عام 1958، مساعدات أمنية وعسكرية أميركية تعزّزت بعد حرب 1967، وتحديداً في أعقاب إنهاء فرنسا علاقاتها الأمنية مع الكيان العبري، لكنها بلغت ذروتها بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» في عام 1979، وأخذت منحى دائماً، في عام 1985، مع توقيع إدارة رونالد ريغان على منحة سنوية قيمتها 3 مليارات دولار، معظمها مخصّص للأمن وشراء المعدات العسكرية. وتشكّل المساعدات الأميركية لإسرائيل 55% من مجمل مساعدات الولايات المتحدة لبقية دول العالم، إذ بلغت، منذ عام 1948، قرابة 130 مليار دولار، وتفيد تقديرات أخرى بأنها وصلت إلى 270 ملياراً. هذا الإنفاق مضافاً إليه الإنفاق العسكري الضخم للولايات المتحدة، بات يطرح جدلاً في أوساط النُخب الأميركية، وخصوصاً بعد مآل الحرب الأفغانية. فبعد يومين من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، صوّتت لجنة القوات المسلّحة في مجلس النواب على تحديد موازنة «البنتاغون» لعام 2022. وبما أن اتجاه المسؤولين الأميركيين يتعزّز نحو إنهاء حروب استمرّت عقوداً، فإن الحفاظ على المستويات الحالية من الإنفاق العسكري (حوالى 730 مليار دولار) لا يبدو منطقياً، فكيف، والحال هذه، إذا جرى التصويت على زيادته بمبلغ ضخم قدره 24 مليار دولار. تطرح كاترينا فاندن هوفل، في مقالة نشرت في صحيفة «واشنطن بوست» بعنوان «حان الوقت لتفكيك المجمع الصناعي العسكري» جملة تساؤلات تتمحور حول ما سلف، وما إذا كانت البلاد بحاجة إلى إنفاق كل هذه الأموال (تُعدّ الموازنة العسكرية الأميركية أعلى من تلك الخاصة بالدول الـ 11 التي تليها مجتمعةً)، أم أن هناك حوافز أخرى تُؤخذ في الحسبان؟ وتجيب بأن «الروابط بين الحكومة والقطاع الخاص تشكِّل ــــ ما أطلق عليه الرئيس دوايت أيزنهاور المجمع الصناعي العسكري ــــ أسس دفاعنا الوطني. فمنذ الحادي عشر من أيلول، انتهى ما بين ثلث إلى نصف المبلغ الذي أنفقه البنتاغون، والبالغة قيمته 14 تريليون دولار، في يد مقاولي الدفاع الذين يبتغون الربح»، وتلفت، في هذا السياق، إلى أن «العشرات من أعضاء الكونغرس وأزواجهم، يمتلكون أسهماً بملايين الدولارات في تلك الشركات»، حتى إن مسؤولي «البنتاغون» يغادرون ــــ بانتظام ــــ مناصبهم الحكومية للعمل في مجالس إدارة الشركات أو جماعات الضغط نيابةً عن مقاولي الدفاع. ويفيد تقرير حديث صادر عن «مكتب المساءلة الحكومية» بأنه، بين عامَي 2014 و2019، انضمّ 1718 من كبار مسؤولي وزارة الدفاع ومسؤولين آخرين للعمل لدى كبرى شركات الصناعات الدفاعية في البلاد، فيما حقَّق الجنرالات ثروات من خلال الانضمام إلى مجالس إدارة هذه الشركات. والنتيجة، تقول الكاتبة، هي أن «القرارات المتعلّقة بالانخراط في صراعات عسكرية، يتّخذها أشخاص لديهم مصلحة راسخة في إدامة هذه النزاعات».