لم تجد الإدارة الأميركية وسيلةً للدفاع سوى الهجوم. فالمسار الذي اختطّته لنفسها في أفغانستان ليس فكرتها، وهي، في النهاية، "ورثت موعداً، لا خطّة"، على حدّ تعبير وزير الخارجية أنتوني بلينكن، خلال جلسة استماع عاصفة عُقدت في الكونغرس أوّل من أمس. مثول الدبلوماسي الأميركي أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، في شهادة تُعدّ الأولى لمسؤول في هذه الإدارة منذ إحكام حركة "طالبان" سيطرتها على أفغانستان، الشهر الماضي، جاء في موازاة اشتغال الرئيس جو بايدن على تكثيف نشاطه الدبلوماسي العالي المستوى، ومحاولته إحياء تحالفات بلاده التقليدية للتفرّغ لمواجهة الصين، الخطة الوحيدة على جدول أعمال الإدارة للسياسة الخارجية. بالعودة إلى الجلسة، بدت لهجة بلينكن حازمة، فهو ردّ على الاتهامات حول غياب الاستعدادات للانسحاب - والتي أتى بعضها من صفوف المعسكر الديمقراطي -، عبر شنّ هجوم مضاد بتحميله الرئيس السابق دونالد ترامب، مسؤولية ما آل إليه الانسحاب الكارثي من أفغانستان. فقال: "لقد ورثنا مهلةً، لكنّنا لم نرث خطة"، فيما لم يكن لدى بايدن خيار آخر "إلّا وضع حدّ للحرب أو الانخراط في تصعيد... حركة طالبان كانت أقوى عسكرياً من أيّ وقت مضى"، وعديد القوات الأميركية على الأرض كان الأدنى أيضاً، بموجب الاتفاق الذي جرى التوصّل إليه بين إدارة ترامب و"طالبان"، والقاضي بالانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية. ولدى محاولته تبرير الانسحاب وفق خطّة الإدارة السابقة، أكد أن رئيسه، الذي أيّد مراراً قرار إنهاء هذه الحرب، "لم يكن لينجز (الانسحاب) بالضرورة وفقاً لهذا الجدول الزمني"، علماً أن بايدن أرجأ الموعد المتّفق عليه في إطار "اتفاق الدوحة" نحو أربعة أشهر تحت ذريعة "إتمام الاستعدادات".
اعتبر بلينكن أنه لم يكن لدى بايدن خيار آخر «إلّا وضع حدّ للحرب أو الانخراط في تصعيد»


ولا يبدو أن "رؤية" الإدارة، التي لن تزيل الوصمة التي لحقت بسمعتها من جرّاء تنظيم عملية انسحاب فوضوية سمحت بعودة "طالبان" إلى الحكم بعد عشرين سنة من إطاحتها، أقنعت كثيرين، ولا سيما خصومها في المعسكر الجمهوري. فها هو النائب مايكل ماكول يذكّر بأن "الرئيس رفض الإصغاء إلى جنرالاته ومسؤولي الاستخبارات الذين حذّروه من مغبّة ما سيحصل خلال انسحابنا"، مندّداً بحصول "كارثة تاريخية" و"استسلام غير مشروط أمام حركة طالبان"، فيما قال زميله، دان موزر، ساخراً: "تحمّلون الجميع المسؤولية ما عدا أنفسكم وحركة طالبان". وفي حين خفّف الديمقراطيون من حدّة انتقاداتهم، كثّف الجمهوريون في المقابل هجماتهم خلال الجلسة التي استمرت خمس ساعات، حتّى إن بعضهم ذهب إلى حدّ المطالبة باستقالة وزير الخارجية. وصرخ براين ماست، وهو يحمل صوراً لعسكريين قُتلوا في تفجير مطار كابول: "لقد تلاعبتم بأجهزة الاستخبارات"، ليردّ عليه بلينكن بالقول: "ما تقولونه خاطئ بكل بساطة". كما ردّ على نائبة اتهمته بـ"الخيانة"، قائلاً: "أنا أخضع للمساءلة وقمنا بما كان ينبغي علينا القيام به". في الجوهر، أوضح وزير الخارجية الأميركي أنه "حتّى أكثر التحاليل تشاؤماً، لم تتوقّع انهيار القوات الحكومية في كابول قبل انسحاب القوات الأميركية. وما من شيء يظهر أن بقاءنا لفترة أطول كان ليجعل القوات الأفغانية أكثر مقاومة واستقلالية".
وخلال جلسة الاستماع المخصّصة لمناقشة موضوع الانسحاب من أفغانستان، طالب بلينكن، باكستان، بعدم الاعتراف بالحكومة الأفغانية الجديدة، ما لم تلبّ "طالبان" توقّعات "المجتمع الدولي". واستجابةً لدعوة نواب من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، إدارة بايدن، إلى مزيد من الحزم في التعامل مع إسلام أباد، رأى بلينكن أن هناك ضرورة لالتزام "جميع الدول، بما في ذلك باكستان، بما يتوقّعه المجتمع الدولي من حكومة تقودها طالبان قبل منحها أيّ شرعية أو أيّ دعم"، موضحاً أن في طليعة هذه الأولويات وفاء الحركة بوعدها السماح لأولئك الذين يريدون مغادرة أفغانستان بأن يفعلوا ذلك، واحترامها حقوق النساء والأقليّات ومكافحتها الإرهاب.
في هذا الوقت، بدأ بايدن تكثيف نشاطه الدبلوماسي، محاولاً الإيحاء بأن حرب أفغانستان، خصوصاً بعد إحياء الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول، أصبحت وراءه، وبأن بلاده باتت على أتمّ الاستعداد للتفرّغ لمواجهة التحدّي الذي تمثّله الصين على مكانتها في العالم. ووفق جدول أعماله، سيلقي الرئيس الأميركي كلمةً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 أيلول، حيث سيقترح، وفق ما ذكرت "واشنطن بوست" و"بوليتيكو"، عقْدَ قمة دولية مكرّسة للتلقيح ضدّ "كورونا"، على أن يستقبل، في 24 الجاري، رؤساء وزراء الهند واليابان وأستراليا في إطار التحالف الرباعي، المعروف باسم "كواد" أو "الحوار الأمني الرباعي". وستسمح هذه القمّة الرباعية بين بايدن ورؤساء وزراء كل من أستراليا سكوت موريسون، والهند نارندرا مودي، واليابان يوشيهيدي سوغا، "بتعزيز الروابط وتعميق التعاون"، وتجديد الالتزام بجعل "منطقة الهند-المحيط الهادئ مفتوحة وحرّة".