تتجاوز الرهانات الإسرائيلية على اتفاقيات التطبيع الأخيرة، مع بعض دول الخليج والسودان، الجانب المتّصل بإضفاء الشرعية على كيان الاحتلال، إلى أبعاد استراتيجية أخرى ترتبط بمحاولة بناء خطوط دفاع أمامية لحماية الأمن القومي الإسرائيلي. فإلى جانب ما تستهدفه تلك الاتفاقيات من تطويق الشعب الفلسطيني بـ«تسويات» مع أنظمة ترى في قضية فلسطين عبئاً ينبغي التخلّص منه بأيّ ثمن، فهي تمثّل أيضاً مدخلاً لبلورة خطط من المتعذّر إبقاؤها سرّاً، كونها ترتكز على التعاون والتكامل والتنسيق التكنولوجي والاستخباراتي والعملياتي، خاصة إذا ما تضمّنت عمليات رصد واعتراض جوي في مواجهة تطوّر قدرات محور المقاومة على مستوى الطائرات المسيّرة وصواريخ «كروز»، وفق ما تؤكده التقارير الإسرائيلية.وتعزّزت الحاجة إلى الخطط المذكورة في ضوء استمرار المسار التصاعدي لمحور المقاومة، في اتجاهَين: اتّساع نطاقه الجغرافي، وتقدّمه العسكري، في مقابل فقدان إسرائيل - على رغم ما تتمتّع به من نقاط تفوّق في أكثر من مجال - للعمق الاستراتيجي، ودونية إمكاناتها على غير مستوى. وما ضاعف هذه الحاجة أيضاً فشل الرهانات التي وضعتها تل أبيب على الخطط الأميركية لإسقاط النظام في إيران أو إخضاعه، كما الفشل في باقي ساحات محور المقاومة، حيث لم تبلغ استراتيجية «المعركة بين الحروب» أهدافها، وإن حاول العدو التسويق لإنجازات مهمّة حقّقتها، يُقرّ هو نفسه بأنها نسبية، بدليل تنامي قدرات «حزب الله» النوعية. انعكس هذا الفشل ذهولاً لدى القيادة الإسرائيلية، وتحديداً مؤسسة الجيش، إزاء قدرة إيران على الصمود على رغم كلّ ما تواجهه من ضغوط. ولعلّ أبلغ من عبّر عن ذلك قائد «جبهة إيران»، اللواء طال كالمان (رئيس شعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة)، بقوله في مقابلة مع صحيفة «معاريف» (07/09/2021)، إن النظام في طهران «يتميّز بالصبر والنظرة الاستراتيجية البعيدة المدى، هم لا ينظرون إلى صباح الغد، وإنما إلى 30 - 40 عاماً إلى الأمام». وأضاف كالمان أن «الأمر المدهش أنه على الرغم من الأثمان الثقيلة على المواطن الإيراني، والعقوبات الأميركية الثقيلة، والكورونا، والحضيض الاقتصادي الداخلي، الأصعب في إيران منذ الحرب مع العراق في سنوات الثمانينيات، إلا أنها تُواصل سعيها لتنفيذ استراتيجيتها»، متابعاً أن «المحور الشيعي آخذ بالتوسّع ويخوض معنا تنافساً استراتيجياً بعيد المدى».
وفي ظلّ حالة اليأس هذه التي يبدو أنها حفرت عميقاً لدى جهات القرار في إسرائيل، لم تجد قيادة العدو بدّاً من تبنّي استراتيجية متعدّدة المسارات، من ضمنها نسج تحالفات إقليمية يمكن أن تساهم في حماية الأمن القومي الإسرائيلي على أكثر من صعيد استخباراتي وعملياتي، على الأقلّ وفق مفهوم المؤسسة العسكرية. وفي هذا الإطار، تحدّث كالمان عن أنه «في السنة الأخيرة، جرى مسار ليس أقلّ من دراماتيكي، في تأثيره على بلورة الشرق الأوسط» في إشارة إلى عمليات التطبيع، التي توجِد، بحسبه، «إمكانية حقيقية لإنتاج محور معتدل في مقابل المحور الشيعي الإيراني»، و«لكبح تطلّعات إيران الإقليمية»، والتي ترى فيها إسرائيل تهديداً لأمنها القومي. وأوضح كالمان أبعاد العلاقة بين التوقيع على «اتفاقيات أبراهام» وبين نقل إسرائيل من قيادة المنطقة الأوروبية في الجيش الأميركي إلى قيادة المنطقة الوسطى (سنتكوم) التي تعمل في الشرق الأوسط، حيث الدول التي وقّعت معها إسرائيل اتفاقيات التطبيع. يعني ذلك الانتقال، بحسب كالمان، «أننا ننتمي في الواقع إلى نفس القيادة (العسكرية) الأميركية التي تتعاون مع هذه الدول، ولذلك يوجد هنا فتحة للتعاون الآخذ بالاتساع». وإذ لفت إلى أنه «في الأبعاد العسكرية لا نزال في بداية الطريق، يوجد لقاءات وتبادل آراء وبحث عن مساحات التعاون»، فقد أقرّ بأن «هناك مجالاً واحداً بارزاً يمكن أن يتمّ فيه دفع التعاون إلى الأمام، هو مجال الدفاع». ولذا، تمّ تشكيل «مجموعات عمل مع الأميركيين والشركاء الآخرين»، في إشارة إلى الدول المُطبّعة وتلك التي يُتوقّع أن تنضمّ إليها لاحقاً.
لم تجد إسرائيل بدّاً من تبنّي استراتيجية متعدّدة المسارات من ضمنها نسج تحالفات إقليمية


لم يُخفِ كالمان أن هذا التعاون يستهدف توفير الحماية لإسرائيل في مواجهة تطوّر القدرات العسكرية والصاروخية والجوية لمحور المقاومة، وهو ما بيّنه بقوله: «ما وراء ذلك، يصبح لنا عمق. فدولة إسرائيل صغيرة وليس لديها حالياً عمق، والصورة (المعلوماتية) المسبقة تسمح لها بالاستعداد بشكل أفضل، وأيضاً بمعالجة التهديدات البعيدة». فالمطلوب «إنتاج شراكة في المعلومات والمعرفة تسمح بتوفير صورة لمكان واحد، واتخاذ قرار (عملياتي) بما يتلاءم، عندما يتمّ في المستقبل تعيين قيادات دفاع جوي تعرف كيف تتحدّث مع بعضها». وفي السياق نفسه، يندرج حديث كالمان عن الاهتمام بنصْب منظومات دفاع أميركية إضافية، سواءً لصالح إسرائيل أو لصالح شركائها، فضلاً عن استعداد تل أبيب لأن تبيع للأخيرين، بالتنسيق مع واشنطن، منظومات دفاع جوي إسرائيلية. أمّا في ما يتعلّق بالدول التي يمكن أن تشملها تلك الشراكة لاحقاً، فقد اعتبر قائد «جبهة إيران» أن «الدينامية (في المنطقة) يمكن أن تدفع خلال سنتين إلى ثلاث سنوات، دولاً تقيم معها إسرائيل علاقات غير رسمية إلى بناء علاقات رسمية، مثل السعودية وسلطنة عمان والكويت». والجدير ذكره، هنا، أن التمهيد لذلك المخطط بدأ مع زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي في شهر حزيران الماضي واشنطن، حيث قدّم وفد من كبار المسؤولين الإسرائيليين اقتراحاً لنظرائهم في واشنطن بإقامة «منطقة حظر طيران» في الشرق الأوسط للطائرات بدون طيار الإيرانية وصواريخ «كروز» التي تقول إسرائيل إن إيران زوّدت بها حلفاءها، ولهذه الغاية تمّ إنشاء طواقم مشتركة.
على أيّ حال، تُظهر مطالعة كالمان خلفية التهديدات المتواصلة التي يطلقها القادة الإسرائيليون، وتؤشّر إلى طبيعة التقدير القائم لدى الجهات المختصّة في شأن ما ستكون عليه معادلات القوة في المستقبل المنظور، بعد فشل الرهانات الإسرائيلية على امتداد سنوات. كما تُظهر أن أكثر ما تخشاه تل أبيب هو أن ينجح محور المقاومة في المحافظة على وتيرة تعاظم قدراته، حيث حذر كالمان من أن «تهديد الصواريخ الدقيقة ليس بمستوى التهديد الوجودي النووي، لكنه ليس بعيداً منه». ونبّه إلى أن الصواريخ الدقيقة ليست حكراً على «حزب الله» في لبنان، بل هي تهديد تراكمي يشمل كلّ ساحات الحرب، مقرّاً بأن لدى إيران مخزوناً كبيراً من القدرات التي تتحوّل إلى دقيقة بمديات تتجاوز الـ1000 كلم، إضافة إلى تهديدات مماثلة في اليمن والعراق وسوريا.