«هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود لدمج أصدقائنا في أميركا اللاتينية وأفريقيا في شبكة أوسع من الديموقراطيات، واغتنام فرص التعاون في هاتين المنطقتَين». على رغم أن هذه هي الجملة الوحيدة الواردة في «مانيفستو» السياسة الخارجية الذي نشره الرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل عام ونصف عام، في مجلة «فورين أفيرز»، لم يَغِب ملفّ القارة الجنوبية عن حملته الانتخابية، نظراً إلى الأهمية التي تمثّلها هذه المنطقة بالنسبة إلى طيف واسع من الناخبين الأميركيين من أصول لاتينية، ولِمَا لهؤلاء من وزن يرجّح ــــ في بعض الولايات ــــ كفّة التصويت لمصلحة مرشّح على حساب المرشّح الآخر. وفي حين وضعت الإدارة الأميركية السابقة هذا الملفّ ضمن جدول أولوياتها، اختارت غالبية الأميركيين من أصول لاتينية، التصويت لجو بايدن بدلاً من دونالد ترامب، معوّلةً على سياسة أكثر حزماً وواقعية إزاء الجنوب.مع هذا، ظلّت سياسة بايدن، حتّى بعد انتخابه رئيساً، مبهمةً في هذه المنطقة، علماً بأنه أعطى وعوداً مِن مِثل عزمه على استعادة قوّة الولايات المتحدة ودورها لمواجهة نفوذ الصين وروسيا المتزايد في أميركا الجنوبية والوسطى، باعتباره يشكّل «تهديداً للأمن القومي الأميركي». نتيجةً لذلك، أشارت التوقّعات إلى اتجاه بايدن نحو إقامة شراكات مع دول القارّة لتعزيز العلاقات الاقتصادية معها، وخصوصاً بعد تعهّده بتنفيذ استراتيجية إقليمية بقيمة 4 مليارات دولار لمعالجة العوامل التي تشجّع على الهجرة. وانتقد الرئيس الأميركي، مراراً، نهج سلفه القائم على العقوبات القصوى في كل من فنزويلا وكوبا وبوليفيا ونيكاراغوا، ليس لقساوته أو التداعيات المترتّبة عليه، وإنّما لعدم نجاعته، وخصوصاً في كاراكاس حيث رأى أن سياسة الإدارة السابقة، ومساعيها إلى إطاحة الرئيس نيكولاس مادورو، جاءت بـ«نتائج عكسيّة». لكن تلك القناعة لم تغيّر، بأيّ حال من الأحوال، السياسة المعتمِدة على مواصلة أميركا الاعتراف بزعيم المعارضة، خوان غوايدو، رئيساً لفنزويلا، وهو ما يؤكد تالياً، غياب «رؤية» مختلفة عن تلك القائمة أصلاً، على رغم حديث الإدارة المتكرّر عن إمكانية التخفيف من العقوبات، وإبداء استعدادها لإنشاء آلية للحوار مع حكومة كاراكاس، لمناقشة «إلغاء» العقوبات، في مقابل إجراء ما تسمّيه «انتخابات حرّة ونزيهة». وفي ما يخصّ كوبا، تعهّد بايدن بتخفيف العقوبات التي شدّدها ترامب، ومراجعة قرار سلفه القاضي بوضع البلد الكاريبي ضمن لائحة «الدول الراعية للإرهاب»، من دون أن يُقدِم على خطوات عمليّة تحدُّ من وطأة الحصار الذي تعيشه هافانا.
فرضت الأحداث المتتالية في بعض بلدان الجنوب نفسها على الأجندة الأميركية


إزاء هذه الوعود، كثُرت التحليلات عن توجّه بايدن نحو اعتناق «مذهب أوباما» في مقاربة قضايا أميركا اللاتينية، على مبدأ المهادنة تارةً، وممارسة الضغوط لقلب الأنظمة تارةً أخرى. وهو توجُّه يمكن التوقُّف عنده، وذلك بالنظر إلى: أوّلاً، أن جو بايدن يُعدّ خبيراً في شؤون أميركا اللاتينية، ولا سيما أنه قام بدور رئيسيّ في مفاوضة الرؤساء اليساريين، حين كان نائباً للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما؛ ثانياً، فشل السياسات التي اتّبعها ترامب في قلْب الأنظمة، وصولاً إلى صعود اليسار مجدداً في دولٍ كانت تحكمها حكومات يمينية (مثل الأرجنتين...)؛ ثالثاً، لم تستطع سياسة ترامب المعادية لبكين أن توقف المدّ الصيني والروسي المتصاعد في القارة الجنوبية. وبما أن بايدن جاء متأبّطاً فكرة «استعادة الريادة الأميركية»، والتي على خلفيتها وضع بكين وموسكو في مصاف الدول التي تمثّل تهديداً للأمن القومي الأميركي، بدا «منطقياً» حديثه عن إيقاف هذا المدّ جنوباً.
وباستثناء ملفّ الهجرة، ومع أن ثمانية أشهر مرّت منذ تنصيب بايدن رئيساً، إلّا أن إدارته لم تنفّذ معظم وعودها تجاه دول الكاريبي؛ إذ اكتفت بالسير على خطى ترامب. فلا العقوبات خُفّفت، ولا اسم هافانا شُطِبَ من قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، فيما لم تُفتح قنوات حوار مع فنزويلا بعد، على رغم اتّجاه كاراكاس نحو انتخابات جديدة بمشاركة المعارضة. ولأن الإدارة الحالية تولي السياسة الداخلية أولويةً، لفتت صحيفة «Gestión de Perú» البيروفية، إلى أن «أميركا اللاتينية ليست أولوية... باستثناء قضيّة الهجرة، التي ترتبط بشكل أساسي بالمكسيك وأميركا الوسطى». مع ذلك، لم يستطع بايدن الاستمرار في إهمال القارة أكثر؛ إذ إن الأحداث المتتالية في بعض بلدان الجنوب، فرضت نفسها على الأجندة الأميركية، وفق الباحثة في شركة «أوراسيا الاستشارية السياسية»، ريسا غريس تارغو، التي اعتبرت أن «الزيادة في وتيرة الهجرة والمستجدّات التي ظهرت أخيراً في بلدان لاتينية، دفعت قضايا أميركا الجنوبية إلى رأس قائمة» اهتمامات البيت الأبيض. ورأت الكاتبة أن «التحديات الإضافية أجبرت بايدن على الاهتمام بالمنطقة التي يفضّل عدم الالتفات إليها على الإطلاق». وفي الاتجاه نفسه، أشارت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية إلى أن «زيادة وتيرة الأزمات في كوبا وهايتي (مثلاً)، والدمار البيئي واحتدام أزمة الهجرة تتصدّر، بشكل ثقيل وغير مُرحّب به» دائرة اهتمام بايدن، الذي «يفضّل إنفاق رأسماله السياسي في الداخل». وفيما تحدّث العديد من الخبراء عن ضرورة إيلاء الإدارة الأميركية أهمية لمنطقة «الجنوب»، محذّرين من الآثار السلبية التي ستترتّب على مسار العمل الأميركي في هذه المنطقة بفعل بطء الاستجابة، رأى مدير السياسة الدولية، في مركز «البحوث الاقتصادية والسياسية» في واشنطن، ألكسندر ماين، أن هناك ضرورة لـ«القبول بتراجع الهيمنة الأميركية في أميركا اللاتينية»، ولـ«دفن مبدأ مونرو» والتخلّص من سياسة التدخل لـ«حماية» دول أميركا اللاتينية من القوى الأجنبية.



الهجرة تقسم الحزبين
تولي الإدارة الأميركية أهميّة قصوى لملف الهجرة، لِما له من تداعيات على المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة. إلّا أن الوقائع تظهر بطئاً أميركياً في التعامل مع المهاجرين. وتشير بيانات حكومية نشرتها شبكة «إيه بي سي نيوز» الأميركية، الشهر الماضي، إلى وجود 4276 طفلاً في الحجز في عهد جو بايدن، مقارنة بنحو 3400 في نهاية عهد دونالد ترامب، أي بزيادة تصل إلى 25%. يترافق ذلك مع ارتفاع معدّل احتجاز الأطفال إلى 117 ساعة ــــ علماً بأن المعدّل القانوني المسموح به هو 45 ساعة فقط ــــ، وارتفاع الاكتظاظ في أماكن الاحتجاز إلى 363%، فضلاً عن الارتفاع الحادّ في تدفّق المهاجرين. وكلّف تأخير نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، المسؤولة عن ملف الهجرة، زيارتها للحدود الأميركية ــــ المكسيكية لأكثر من ثلاثة أشهر، انتقادات كثيرة وصلت إلى حدّ مطالبة أعضاء من الكونغرس الأميركي بعزلها. وتنذر الأوضاع الحالية بمعركة مرتقبة بين الحزبَين الديموقراطي والجمهوري حول ملف الهجرة، ما قد يؤدي إلى صدامٍ مستقبلاً، ولا سيما أن أيّ مشروع مرتبط بالمهاجرين سيواجه جدلاً في مجلسَي الكونغرس، وإنْ كانت الغلبة للديموقراطيين فيهما.