لا تنوي حركة «طالبان» تشكيل حكومة انتقالية، بعد سيطرتها على معظم محافظات أفغانستان، بما في ذلك العاصمة كابول، وتُفضّل بدلاً من ذلك الذهاب مباشرةً إلى تسلّم مقاليد الحكم بشكل كامل، لإحياء الإمارة الإسلامية، بعد عشرين عاماً من الاحتلال الأميركي للبلاد. هذه المرّة، تمتلك «طالبان» تصوّرات جديدة لشكل الدولة وعلاقاتها الخارجية؛ بدايةً من وعودها للأميركيين بقطع علاقتها مع تنظيم «القاعدة»، مروراً بإرسال وفودها إلى روسيا والصين لطمأنتهما إلى أنها لن تسبّب القلق لهما، ووصولاً إلى تعهّدها باحترام حقوق الأقليات وحقوق المرأة شرط ارتداء الحجاب، وضمان «حرية التعبير» في إطار الشريعة الإسلامية. بيد أن كلّ هذا يبدو كلاماً فضفاضاً، ولا يمتلك أحد، على وجه الدقة، تصوّراً واضحاً لشكل «الحكومة الإسلامية المنفتحة والشاملة» التي تنوي الحركة تشكيلها خلال الأيام القادمة. وهنا، يبدو الوقت مناسباً لإعادة قراءة رحلة فهمي هويدي إلى إمارة أفغانستان الإسلامية (1996-2001)، التي وثّقها في كتابه «طالبان: جند الله في المعركة الغلط» (الشروق، 2001). في الكتاب الصادر قبل وقت قصير من أحداث الحادي عشر من أيلول، وما تلى ذلك من غزو أفغانستان من قِبَل الولايات المتحدة، وتجريم الحركة محلياً ودولياً، يشير الكاتب منذ البداية إلى «أنك لن تستطيع أن تفسّر الحاضر وتفهمه إلا إذا غُصت في الماضي وأدركت دلالاته وعبره» في هذا البلد الوعر، الذي ينبغي فيه «ألّا تتقدّم إلى الأمام خطوة إلّا بعد أن ترجع إلى الوراء عدة خطوات». هويدي كاتب إسلام غنيّ عن التعريف، اتُّهم في بداية التسعينيات بالتحريض على فرج فودة، لكنه أصبح في العقدين الأخيرين من أكثر الكتّاب الإسلاميين رصانةً. وكما هو واضح من عنوان الكتاب – الذي يروي تفاصيل زيارتيْه لأفغانستان «الطالبانيّة» بين عامَي 1998 و2001، مرّة كصحافي، وأخرى ضمن وفد «منظّمة المؤتمر الإسلامي» – لا يبدو خلافه معهم عقائدياً بقدر ما هو خلاف شكلي. المهمّ في رحلة هويدي أنها قراءة إسلامية عربية، شملت القرب والعمق، عِلاوة على خبرة الكاتب في أفغانستان، عندما كان أوّل صحافي عربي يزورها، بعدما قام الشيوعيون بثورة/ انقلاب على بقايا النظام الملكي في عام 1978، وأتاحت له التجربة آنذاك إصدار أول مؤلَّفاته «حدث في أفغانستان» (دار الكلمة، 1979).
يستهلّ هويدي شرحه للواقع الأفغاني من ناحيتَين، جغرافية وتاريخية: تركت الجبال الصخرية والوحشية بصماتها على الناس الذين تربّوا على قسوة الطبيعة وجبروتها، لذلك تحوّلت بلادهم إلى قلعة صلبة استعصت على الغزاة على مرّ التاريخ. الإسكندر الأكبر وجنكيز خان وتيمورلينك ونابليون بونابرت الذي أرسل مبعوثاً إلى كابول ليمهّد فتح الهند، وجيوش قياصرة الروس والإمبراطورية البريطانية، جميعهم مرّت جحافلهم من هناك، لكنّ أحداً منهم لم يهنأ على أرضها.
لهذا، فإن المرّة الوحيدة التي أُفني فيها جيش لبريطانيا من جانب دولة صغرى، عندما كانت الإمبراطورية في أوج جبروتها خلال القرن التاسع عشر، هي في أفغانستان. ومنذ ذلك الحين، عُرفت الأخيرة بأنها «مقبرة الإمبراطوريات»، وهو الوصف الذي استخدمه الرئيس الأميركي، جو بايدن، أخيراً، في سياق حديثه عن الفشل العسكري في أفغانستان بعد صرف تريليونات الدولارات.
الولايات المتحدة لعبت دوراً في ازدياد التشدّد الديني عندما دعمت «المجاهدين» في نهاية السبعينيات


ثمّ يتطرّق هويدي إلى دور الدين وعلمائه في الحياة العامة الأفغانية، باعتباره مجتمعاً شديد التديّن، وبالغ التقدير لعلمائه. لم يكن للدولة الأفغانية (الإمبراطورية الدرانية) أن تتأسّس على يدي أحمد خان الأبدالي عام 1747، إلا بعد بيعة صابر شاه، شيخ الصوفية، له. وهكذا حكم هو وأبناؤه من بعده، ولم تخسر سلالته الحكم إلّا بعد فتوى دينية مضادّة. ولم يكن رجال الدين مجرّد روافد للحكم، بل تولّوا إدارة البلاد بشكل مؤقت، عندما لم يكن هناك أمير جاهز لتولّي زمام الأمور. مع مطلع القرن العشرين، اغتيل الأمير حبيب الله خان، لأنه تحالف مع بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وترك الإمبراطورية العثمانية تُهزم أمام عينيه، من دون أن يحرّك ساكناً. ثمّ بعد عشر سنوات، عُزل خليفته الملك أمان الله خان، بعد تكفيره من علماء الدين، لأنه حاول محاكاة تجربة مصطفى كمال أتاتورك في الجمهورية التركية، من خلال إصدار أوامره بنزع الحجاب، ومنع اللباس الشعبي التقليدي، وإلزام أعضاء البرلمان به، وإيفاد النساء للدراسة في تركيا، وتقييد نشاط العلماء، إلى جانب اقتراحه على البرلمان منع تعدّد الزوجات، وتحديد عمر معين للزواج، وإلغاء عطلة الجمعة.
القصة الأخيرة، التي حدثت منذ أكثر من تسعين عاماً، تنطبق كثيراً على ما يحدث اليوم. قبل أسبوع فقط، سخر «الرئيس» أشرف غني من مغادرة الملك أمان الله خان للبلاد، بعدما لاقاه من استهجان شعبي في عام 1929، لكن غني نفسه غادر بلاده، مع اقتراب طالبان من العاصمة كابول، ليكون مثالاً آخر على تأثير الدين الكبير في إزاحة الحكام من على رأس السلطة. المفارقة في الحالة الأفغانية اليوم، أن الولايات المتحدة لعبت دوراً في ازدياد التشدّد الديني، مرةً عندما دعمت «المجاهدين» بشكل مباشر في نهاية السبعينيات وعقد الثمانينيات ضد الحكومة العلمانية الموالية للاتحاد السوفياتي، ومرةً بعدما غزت البلاد وصار التشدّد الديني ردّ فعل تجاه الاحتلال وفرض أجنداته على الأفغانيين. ليس التديّن بالضرورة نقيضاً للعلم والمعرفة. على الأقلّ، هذا ما تثبته تجربة إيران المجاورة. لكنه في الحالة «الطالبانية»، هو كذلك بكلّ تأكيد. نقل الكاتب الأوروغوياني، إدواردو غاليانو، عندما كان عضواً في المحكمة الدولية المهتمّة بفض النزاع في أفغانستان، صرخة أحد قادة الحركة: «الشيوعيون ألحقوا العار ببناتنا! علّموهن القراءة والكتابة!». بالعودة إلى كتاب هويدي، نرى أن «أمير المؤمنين» الملا عمر، لم يكن مقتنعاً بالعلوم الدنيوية بتاتاً، وكان يرى أن الفقهاء يستطيعون النهوض بأي مسؤولية يُكلّفون بها، لأن معرفتهم بالعلوم الشرعية توفّر لهم مرجعية وخلفية تمكّنانهم من تبيان حدود الخطأ والصواب في مجالات النشاط الإنساني كافة. وهكذا، أصبح طلاب العلوم الشرعية وزراء للصحة والتجارة والمواصلات وما إلى ذلك، وكلّ مؤهلاتهم لشغل هذه المناصب الثقة والورع فقط. غير أن الملاحظة الأهمّ في رحلة هويدي هي أن جميع المسؤولين في الإمارة من عِرق البشتون، الحكام التقليديين لأفغانستان، الذين يمثلون قرابة نصف سكّان البلاد. لكنهم كانوا حريصين، خلال حديثهم مع كلّ الصحافيين الأجانب، على نفي تحيّزهم العرقي، من خلال الإشارة إلى أن وزير التعليم ونائبه من الأوزبك، الذي يظل استثناءً لا يلغي القاعدة، من دون الالتفات إلى الطاجيك والهزارة والتركمان وبقية الأقليات العرقية والمذهبية في البلاد.
تعود طالبان اليوم لتحكم أفغانستان، التي هي سابع أفقر دولة في العالم (بحسب البنك الدولي)، وتبلغ فيها نسبة الأميّة 57% عند البالغين (بحسب منظمة اليونيسكو)، من بينهم 3.7 ملايين طفل أفغاني (60% منهم فتيات) لم يذهبوا إلى المدرسة، وهو ما يمثّل أكثر من عُشر التعداد السكّاني للبلاد. وفيما تبدو مهمّة النهضة والتنمية شبه مستحيلة، فإن فرضية تعميق التخلّف وازدهار تجارة التشادري (البرقع الأزرق) أكثر منطقية في ولاية الملالي الجديدة!