بعيداً عمّا سيتمخّض عنه لقاء جو بايدن - نفتالي بينت، وما تمخّضت عنه سابقاً اللقاءات بين الرؤساء الأميركيين ورؤساء الوزراء الإسرائيليين، فإن كلّ الخطط التي اقترحتها مؤسّسات العدو، وتلك التي تمّ تبنّيها والعمل بموجبها، تنبع من النظرة الرسمية الإسرائيلية إلى التهديد الذي تمثّله إيران على الأمن القومي الإسرائيلي. وهي نظرة ليس تحديدها مسألة نظرية مجرّدة، كونها تُعدّ مفهوماً تأسيسياً له دور جوهري في تقديرات الأجهزة المهنية المختصّة لآفاق المستقبل وما ينطوي عليه من مخاطر وفرص. ولعلّ من أبرز المفاهيم التي يُمكن الحديث عنها في هذا السياق، طبيعة التهديد الذي تشكّله إيران ودرجة خطورته، وهو ما يعبّر عنه أفضل تعبير الجيش الإسرائيلي، ويلعب دوراً رئيساً في بلورة الاستراتيجيات الواجب اعتمادها، انطلاقاً من رؤية مُحدَّدة لحدود القوة، اتّساعاً وضيقاً، ومن تقدير نتائج الخيارات المتاحة لناحية الجدوى والكلفة. وإذا ما أريد استشكاف معالم تلك الرؤية، يمكن الاستعانة برئيس شعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة (أي قائد جبهة إيران)، اللواء طال كالمان، الذي شرح بالتفصيل في إحدى مقابلاته ماهية "التهديد الإيراني"، في ما يصلح أن يكون دليلاً لأيّ مقاربة أو تحليل في شأن الخيارات الإسرائيلية المستقبلية.في الخطّ العام، تُشكّل إيران "تحدّياً في الطابق فوق العسكري، هي تحدّ لرؤيتنا للأمن القومي". وهي، بنظر المؤسسة العسكرية لكيان العدو، "دولة لديها قوة كامنة في التحوّل إلى قوة عظمى إقليمية". والمشكلة الأهمّ بالنسبة إلى إسرائيل، أن إيران تُوظِّف إمكاناتها في استراتيجيات بعيدة المدى "وضعت لنفسها هدفاً حقيقياً، هو تدمير دولة إسرائيل. هذا ليس غداً صباحاً، فهم ينظرون إلى 30 - 40 - 50 سنة إلى الأمام، ويريدون عملية تدريجية لحشر دولة إسرائيل وإضعافها، وفي نهاية الأمر تدميرها". أمّا بالنسبة إلى منابع التهديد، فهي أربعة: الأول، النظام الإسلامي الذي يوصف بـ"التطرّف" نتيجة موقفه الحاسم من أصل الاحتلال الإسرائيلي، والذي "طالما أنه يحكم إيران، فإن إسرائيل تواجه تحدّياً كبيراً جداً". يؤشّر ذلك إلى أن مكمن القلق الإسرائيلي هو وجود منطلقات عقائدية للموقف الإيراني من مسألة تحرير فلسطين، الأمر الذي سبق أن أكده المرشد السيد علي الخامنئي، بقوله إن هذا الموقف "ليس مسألة تكتيكية ولا حتى استراتيجية، لكنها تتعلّق بالقلب والإيمان". والمنبع الثاني هو البعد النووي، الذي يشكّل التهديد الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة بعد التقدّم الذي حَقّقته إيران في أعقاب رفعها درجة التخصيب إلى أكثر من 60%، ووضعها أجهزة طرد مركزي متطوّرة قيد التشغيل. أمّا المنبع الثالث فهو "التعاظم العسكري" الذي يقترب بنظر الجيش الإسرائيلي من "قدرة دولة عظمى"، بينما المنبع الرابع هو سعي إيران إلى التمركز والنفوذ الإقليمي.
تُشكّل إيران «تحدّياً في الطابق فوق العسكري، هي تحدّ لرؤيتنا للأمن القومي»


إزاء ذلك، وجدت إسرائيل نفسها أمام تحدّي بلورة استراتيجية مواجهة مجدية، ذات عناصر أربعة: الردع، الإنذار، الحسم والدفاع. لكن تلك المبادئ التي ظلّت تَحكم الاستراتيجية الإسرائيلية طوال عقود، تبدو اليوم غير ذات صلة، في مواجهة دولة تقع على بعد 1000 كلم، وعدد سكّانها 80 مليوناً، فكيف إذا ما أضيفت إليها قدرة عسكرية متصاعدة، ومفاهيم عملياتية خاصة، وإرادة سياسية، ومحتوى عقائدي. وعلى هذه الخلفية، يرى كالمان أن "الصراع الاستراتيجي الطويل المدى مع إيران يتطلّب منا أن نفكّر بشكل مختلف عمّا نفكّر به إزاء بلد ما موجود على حدودنا". ولذا، "من غير الممكن النظر إلى (التهديد) النووي فقط، أو التعاظم (العسكري) فقط، أو المنطقة فقط. علينا أن نتعامل مع كلّ شيء"، مع جميع العناصر "العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، وغير ذلك. هذا هو حجم التحدّي". وإذ يعرب كالمان عن اعتقاده بأنه يمكن الرهان على تحقيق ردع يعزّز ثقة إسرائيل بنفسها، ويردع الطرف المقابل عن العمل ضدها، فهو ينبّه إلى أن المسألة طويلة، وفي "المنافسة الاستراتيجية لا تفكّر في صباح الغد". وعلى رغم أن المسألة النووية الإيرانية هي مسألة وجودية بالنسبة إلى إسرائيل، إلّا أن تعاظم القدرات العسكرية التقليدية لإيران يمثّل مصدر قلق عميق لدى الجيش، إذ إن "المسألة لا تتعلّق بالتسلّح بالدبابات والمدفعية، بل بشكل أساسي بالصواريخ والمقذوفات الصاروخية البعيدة المدى، ومعظمها دقيق، وصواريخ مجنّحة، وطائرات بدون طيار، وأنظمة دفاع جوي متطوّرة". لكن الأكثر خطورة، بحسب كالمان، هو أن "إيران لا تنتج لنفسها فقط، بل هي تزوّد حلفاءها بقدرات دقيقة وصواريخ مجنّحة وأنظمة دفاع جوي لمواجهة قدرات سلاح الجو الإسرائيلي". وما يتّضح من ذلك، هو أن القناعة التي ترسّخت في وعي مؤسّسات القرار في كيان العدو بجدّية إيران في دعم قوى المقاومة بأقصى ما تملك من قدرات، بعدما بلغ الصراع مرحلة متقدّمة جداً وأكثر مباشرة، دفعتها إلى تبنّي مفهوم تأسيسي، ذي أبعاد استراتيجية وعملياتية، مفاده أن "ما يُنتَج في إيران لا يبقى في إيران. وهو فوراً موجود في سوريا ولبنان، وربما في غزة لاحقاً"، وفق ما يُقرّ به كالمان نفسه.
على ضوء كلّ ما تَقدّم، يعرب قائد جبهة إيران في جيش العدو عن اعتقاده بأنه "عندما تكون في صراع مع لاعب ذكي واستراتيجي طويل الأمد، عليك أن تعمل للتأثير على نواياه. وللقيام بذلك، عليك أن تعمل في أماكن أخرى وفي طرق أخرى". لكن ما تكشفه رؤية الجيش الإسرائيلي للتهديد الإيراني، هو أن الخيارات التي انتهجتها الولايات المتحدة ومعها إسرائيل، لم تُحقّق، حتى الآن، المؤمّل منها، لا على مستوى القدرات المتصاعدة لدى إيران، ولا على مستوى توجّهاتها المبدئية والاستراتيجية. ولذلك، يحذر كالمان من أن "إيران تنتهج عملية تدريجية لحشر دولة إسرائيل وإضعافها، وفي نهاية الأمر تدميرها".