بعد أكثر من سنتين على بدء الولايات المتّحدة حملة متجدّدة ضدّ الدول ذات الحُكم الاشتراكي في أميركا اللاتينية، بدءاً من فنزويلا مروراً ببوليفيا وصولاً إلى كوبا، لا تزال هذه الحملة التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب تُظهر فشلها الذي يمكن رصده من خلال ثلاثة مؤشّرات: إجهاض المحاولات الانقلابيّة التي قادتها واشنطن في بوليفيا وفنزويلا؛ عودة اليسار مجدّداً بعد الاستحقاقات الأخيرة التي أطاحت الحُكم اليميني في العديد من الدول؛ بدء تفكّك المجموعات التي صنعتها الولايات المتّحدة لتعمل بالنيابة عنها على عرقلة مسار الأنظمة اليسارية في القارّة الجنوبية. على رأس تلك المجموعات تأتي «ليما» التي أُنشئت منذ ما قبل الأزمة الفنزويلية استعداداً للطعن في نتيجة رئاسيات 2018 التي جدّدت سلطة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وتحضيراً للانقلاب عليه من خلال زعيم المعارضة، المدعوم أميركياً خوان غوايدو. هذه المجموعة التي سُمّيت «ليما» نسبةً إلى عاصمة البيرو، وضمّت الدول صاحبة السبق في معاداة فنزويلا كالبرازيل والبيرو وكولومبيا، حاولت إنجاح غوايدو بشتّى الطرق، لكن مساعيها تلك باءت جميعها بالفشل، ليؤول بها الحال إلى كيان بلا ثقل سياسي، بعد سلسلة عمليات انسحاب منها، وصولاً إلى البيرو نفسها.تأسّست مجموعة «ليما» في عام 2017، بدعوة من واشنطن، بهدف «التوصّل إلى حلّ للأزمة في فنزويلا». وقد ضمّت، عند التأسيس، 12 دولة من القارّة الأميركية هي: كندا، الأرجنتين، المكسيك، البرازيل، تشيلي، كولومبيا، كوستاريكا، غواتيمالا، هندوراس، بنما، باراغواي، البيرو. بدأت المجموعة بتفعيل دورها بُعيد محاولة الانقلاب الأميركية على مادورو؛ إذ تزامن اجتماعها الأوّل مع الاجتماع الذي ضمّ الرئيس الكولومبي المحافظ إيفان دوكي، ووزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك مايك بومبيو، حيث اتفقا على توحيد الجهود وتكثيفها لـ«عزل مادورو دبلوماسياً واستعادة الديمقراطية في فنزويلا». وعلى مدى السنوات الماضية، اجتمعت حكومات تلك الدول بشكل دوري لمناقشة الخيارات الممكنة في فنزويلا. ووفق وزير الخارجية الأرجنتيني السابق خورخي فوري فإن «مجموعة ليما هي صاحبة الصوت الأكثر عقلانية من أجل الحرية في فنزويلا... من الضروري أن تتحرّك المجموعة نحو مرحلة جديدة وتُضاعف عملها لحمل جهات فاعلة دولية جديدة على الانضمام إليها بغية الضغط على الديكتاتورية». وفي الاتّجاه نفسه، جاءت الوثيقة التأسيسية التي ذكرت أن الهدف الرئيس للمجموعة يتمثّل في «معالجة الوضع الحرج في فنزويلا، واستكشاف طرق للمساهمة في استعادة الديمقراطية في هذا البلد من خلال حلّ سلميّ وتفاوُضيّ». لكنّ هذا الهدف الذي تحاول صياغته «الرنّانة» إخفاء ماهيته العدوانية تجاه كاراكاس ظَلّ حبيس البيانات التي لم تستطِع تغيير شيء على أرض الواقع، بل إن الأمور ازدادت تعقيداً أمام «ليما» مع إجراء انتخابات تشريعية في فنزويلا امتنعت المعارضة عن المشاركة فيها، وأدّت إلى فوز كاسح لحزب مادورو وبالتالي استرجاع المجلس التشريعي، آخر معاقل المعارضة في كاراكاس، وهو ما لم تَجِد المجموعة إزاءه إلّا الطعن في هذه الانتخابات، واعتبارها «مفتقرة إلى الشرعية لأنها لم تحظَ بمشاركة جميع القوى السياسية الفنزويلية».
شكّل انتقال البيرو إلى معسكر اليسار وما تلاه من تغييرات في سياسة ليما الضربة الكبرى للمجموعة


عقب ذلك، تتالت سلسلة تطوّرات عاكست عمل «ليما» وأهدافها، إذ إنّ موجة الاستحقاقات النيابية التي شهدتها أغلب دول أميركا اللاتينية العام الماضي، أعادت اليسار إلى الواجهة، بعد أن كان اليمين مسيطراً على عدد كبير من تلك الدول، وفي مقدّمتها المكسيك والبيرو والأرجنتين والإكوادور، إضافة إلى بوليفيا ـــ التي أنهت الانقلاب الأميركي على الرئيس السابق إيفو موراليس في غضون سنة ـــ وفنزويلا ونيكاراغوا وكوبا. هذا التحوّل السياسي ترك أثراً سلبياً بالغاً على المجموعة التي كان يُعوَّل عليها أميركياً في استكمال الانقلاب على مادورو، على اعتبار أن فنزويلا تمثّل حجر الرحى في استراتيجية الولايات المتحدة في أميركا الجنوبية. هكذا، بدأت المجموعة تفقد أعضاءها الفعّالين منذ انسحاب الأرجنتين تحت قيادة الرئيس اليساري ألبيرتو فرناديز منها، في آذار الماضي، وهو ما لم يكن مفاجئاً واستدعى انزعاجاً أميركياً. لكنّ الضربة الكبرى تمثّلت في انتقال البيرو، بشكلٍ غير متوقّع، إلى معسكر اليسار، وذلك بعد فوز المرشح اليساري بيدرو كاستييو بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، بعد أن هزم منافسته اليمينية كيكو فوجيموري. إذ فور تسلّمه الحكم بدأ الرئيس الجديد إحداث تغييرات في السياسة الخارجية، سرعان ما تُرجمت بقرار الحكومة البيروفية الانسحاب من «ليما»، والذي شرحه وزير الخارجية البيروفي هيكتور بيجار بالقول إن سياسة حكومته «تتعارض مع العقوبات والحصار الأحادي الجانب» المفروض على فنزويلا. وعندما سُئل بيجار عمّا إذا كان يخطّط للقاء كارلوس سكل الذي عَيّنه غوايدو «سفيراً» لفنزويلا في البيرو أجاب بأنه «لا يعرفه»، مضيفاً أن «إعادة العلاقات الدبلوماسية بين حكومتَي كاراكاس وليما تمثّل أولوية». ومع قرار انسحاب البيرو من المجموعة، تكون الأخيرة قد فقدت عاصمتها الرمزية التي تأسّست فيها، وبالتالي هامشاً واسعاً من قدرتها على التحرّك في القارّة الجنوبية عموماً وفي فنزويلا خصوصاً.