لم تكد تسيطر حركة «طالبان» على العاصمة الأفغانية كابول، حتى انطلقت أهازيج الفرح في أوساط «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) التي يقودها أبو محمد الجولاني في إدلب، سواءً في الشارع الذي شهد بعض مظاهر الابتهاج المُوجَّهة من قِبَل الهيئة، أو حتّى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بادر عدد من القياديّين و«الشرعيّين»، كرئيس العلاقات الإعلامية تقي الدين عمر، والقيادي العراقي أبو ماريا القحطاني، إلى تهنئة الحركة الأفغانية، في حين أصدرت قيادة «تحرير الشام» تعميماً إلى المساجد بالاحتفال عبر مكبّرات الصوت. وتندرج مظاهر الاحتفال هذه في سياق الاهتمام الذي باتت الهيئة توليه لتطوّرات الأحداث في أفغانستان منذ نحو عام، عندما سارعت فور توقيع «طالبان» «اتفاقية سلام» مع الولايات المتحدة الأميركية العام الماضي، إلى إصدار بيان رسمي حمل توقيع «الشرعي العام» عبد الرحيم عطون، وتضمّن رسالة تهنئة لـ«طالبان» بالاتفاق، الذي عدّه عطون «نصراً كبيراً للمسلمين».أمّا اليوم، فلم تَصدر عن «طالبان» أيّ تصريحات رسمية أو إشارات مُوجَّهة إلى «تحرير الشام»، لكن غرفاً صوتية ومجموعات «جهادية» تداولت تسجيلاً منسوباً إلى مقاتل في الحركة يَعِد من خلاله بمؤازرة المقاتلين في سوريا. وهو تسجيل شكّكت مصادر «جهادية»، تحدّثت إليها «الأخبار»، في صحّته، معتبرة أنه يأتي «في سياق الدعاية التي تمارسها تحرير الشام، في محاولة منها للاستفادة من نصر طالبان لترسيخ حضور (زعميها أبو محمد) الجولاني، والعمل على تحويله إلى أيقونة جهاديّة يُبنى عليها مشروعه الذي يسعى إلى فرض السيطرة على الشمال السوري». وعلى مدار العامين الماضيين، عمل الجولاني جاهداً على تغيير صورته أمام «المجتمع الدولي»، وتسويق نفسه وفصيله على أنه «حركة إسلامية أقلّ تشدّداً، تمارس نشاطها داخل حدود سوريا فقط»، بالتزامن مع سعيه المستمرّ إلى تفكيك الفصائل «الجهادية» الأخرى الموجودة في الشمال السوري، وآخرها تنظيم «حرّاس الدين» المرتبط بـ«القاعدة»، والذي ضيّق الجولاني على نشاطه ومناطق نفوذه بشكل كبير، وعمل على نقل عدد من قياديّيه إلى خارج سوريا، وسجن قياديّين آخرين، سعياً لتأكيد انفصاله التامّ الذي أعلنه العام 2016 عن «القاعدة»، ولبسط نفوذه المطلق على مناطق وجوده في الشمال السوري، والتخلّص من جميع القوى التي قد تشاركه السيطرة هناك. كذلك، حاول الجولاني رفع مستوى العلاقات مع الجارة تركيا، فقام بتأمين مواقع انتشار الجيش التركي، ونفّذ أوامر أنقرة بالانسحاب من نقاط عدّة، وشارك القوات التركية في شنّ هجمات عسكريّة على مواقع للجيش السوري، كما في المعارك التي شهدتها إدلب العام الماضي، والتي انتهت بسيطرة الجيش على طريق حلب – دمشق الدولي (M5).
على مدار العامين الماضيين، عمل الجولاني جاهداً على تغيير صورته أمام «المجتمع الدولي»


وبالعودة إلى «طالبان»، يبدو أن النموذج الذي رسمته الحركة الأفغانية بات مصدر إلهام للجولاني، الذي يجتهد في السير على الخُطى نفسها، بدءاً من التأكيد أن نشاط «تحرير الشام» محدود بالحدود السورية، وصولاً إلى الظهور الإعلامي المكثّف، ومحاولة إزالة مظاهر التشدّد كما في اختفاء عمليات الإعدام المصوّرة مثلاً، فضلاً عن إبداء الجولاني في مرّات عديدة استعداده لبناء علاقات دولية سياسية. وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها العام الماضي، عندما ظهر زعيم «تحرير الشام» في لقاء مع «مجموعة الأزمات الدولية»، أراد من خلاله التسويق لجماعته، بالتزامن مع نشر زعيم حركة «طالبان»، الملّا سراج الدين حقاني، مقالاً يوضح من خلاله أهداف «طالبان»، وذلك على صفحات جريدة «نيويورك تايمز» الأميركية. ومنذ بدء الحرب في سوريا قبل نحو عشرة أعوام، رفضت «طالبان» الانخراط فيها بشكل رسمي ومباشر - على رغم تأييد بعض قادة الحركة نشاط «الفصائل الجهادية» في سوريا -. وهو التوجّه الذي أعلنته «طالبان» مراراً عن طريق التأكيد أن «الجهاديين» التابعين لها، الذين وصلوا إلى سوريا، جاؤوا بصفة منفردة، علماً أن حضور مقاتلي «طالبان باكستان» كان أكبر في الساحة السورية. وكان نشاط «طالبان» شهد تعديلات جذرية بعد الحرب الأميركية التي تبعت هجمات تنظيم «القاعدة»، حيث عملت الحركة على خطَّين متوازيَين: الأوّل سياسي ودعائي يحاول تبييض صفحتها وإظهارها بمظهر أكثر اعتدالاً، بما يسمح بفتح خطوط تواصل سياسي مع قوى دولية وإقليمية، والثاني عسكري عن طريق متابعة الضغط العسكري على الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى رغم محاولة الجولاني اتّباع الخطوات نفسها في ما يتّصل بالخطّ الأول، إلّا أن ثمّة اختلافات عديدة بين التجربتَين الأفغانية والسورية، إضافة إلى وجود عقبات عدّة تواجه الرجل. فتجربة «طالبان» في أفغانستان مرّت بمنعطفات كثيرة، منذ ظهور الحركة بشكلها التنظيمي العام 1994 وحتى الآن، اختلفت خلالها التوجّهات بين دعم «الجهاد العالمي» واحتضان «القاعدة»، وصولاً إلى اقتصار نشاطها على حدود أفغانستان وإقامة «إمارة إسلامية» فيها. إضافة إلى ذلك، ثمّة اختلافات بين هيكلية «طالبان» وتركيبة «تحرير الشام»، فبينما تَظهر على الأولى ملامح الانقياد الروحاني للملّا الذي يقودها، حيث يتبع جميع مقاتلي الحركة مذهباً واحداً (المذهب الحنفي)، ومعظمهم تتلمذوا في المدارس الفقهية نفسها، يمكن ملاحظة الشتات الفكري والمرجعي لـ«تحرير الشام»، والذي يظهر بين وقت آخر على شكل تجاذبات فكرية ومعارك وانشقاقات. ومن بين الاختلافات الجذرية أيضاً، استقلالية القرار في «طالبان»، التي ترفض الاتّباع الأعمى والمطلق لأيّ قوة دولية، في وقت قبلت فيه «تحرير الشام» دور التبعية المطلقة لأنقرة، إضافة إلى خوض الأولى حرباً مع قوى دولية، بدءاً من السوفييت وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، في وقت تحاول فيه الثانية الابتعاد عن أيّ مواجهة مع أيّ قوى دولية. ولعلّ أبرز مثال في هذا السياق، ما تمّ تداوله أخيراً من تصريحات منسوبة إلى ذبيح الله مجاهد، المتحدّث الرسمي باسم «طالبان»، حول انزعاج الحركة من طريقة تعامل تركيا معها، والتي تُشابه طريقة معاملتها الفصائل السورية. وعلى الرغم من نفي ذبيح الله صحّة تلك التصريحات، إلا أنه لا يمكن تجاهل حقيقة هذا الفارق الجوهري الكبير بين طالبان والفصائل «الجهادية» في سوريا، وعلى رأسها «تحرير الشام». أمّا الاختلاف الأبرز بين التجربتَين فيكمن في وجود جيش قوي في سوريا، على خلاف الجيش الذي صنعته الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان، والذي انهار خلال بضعة أيام. وهو ما يعرفه الجولاني جيداً، ويحاول الالتفاف عليه بأشكال مختلفة، أبرزها فرض السيطرة الكلّية على مفاصل الحياة في مناطق نفوذه، والعمل على بناء جيل أكثر طاعة وولاء له، بالتوازي مع محاولة تسويق نفسه وجماعته سعياً إلى بناء علاقات دولية تمنحه فرصة المشاركة في الحياة السياسية تحت غطاء «الاعتدال».