تحتفظ الحروب لنفسها بخصائص فريدة، وإن كانت المآسي المتشعّبة التي تُخلّفها من بلدٍ إلى آخر، وبين الغزوة والأخرى، متكرّرة. ويحتفظ التاريخ لها بصور ومشهديات مكثّفة، تُلخّص هي الأخرى مآل الواقع المرير لبلدٍ - أيّ بلد - أنهكته الحروب المتعاقبة. ليست الحالة الأفغانية، في هذا السياق، استثناءً، بل هي نموذج للفشل الأميركي المنفلش، والذي لا ريب سيتكرّر في محطّات ومفاصل أخرى مستقبلاً. ستبقى مشاهد الاثنين، اليوم الذي تلى إحكام حركة «طالبان» سيطرتها على العاصمة كابول، طويلاً في ذاكرة جيل الحرب، والأجيال القادمة. وبعيداً من الاصطفاف جنباً إلى جنب الاحتلال، أو على المقلب الآخر في مواجهته، لا شكّ في أن العقدين الماضيين كانا من بين الأشدّ قتامة في حياة الأفغان، الذين اختار بعضهم التعلُّق بعجلات الطائرات المُقلعة هرباً، على العيش في ظلّ «الإمارة الإسلامية». في هذه الأثناء، تلملم أميركا ما تبقّى من رعاياها وعملائها، متمنّيةً، بعد طول بقاء، حظّاً أفضل للأفغان في مستقبلهم.
من المطار
سرعان ما تَحوّل مطار كابول الدولي، أو مطار «حامد كرزاي»، إلى ما يشبه خلية نحل. حدث ذلك بعد فترة وجيزة من دخول مسلحي حركة «طالبان»، الأحد، إلى العاصمة كابول، لتندفع جموع غفيرة من الأفغان المذعورين نحو المطار، في مسعى من هؤلاء إلى الظفر بفرصة أخيرة للهروب من أفغانستان على متن الطائرات التي اصطفّت في المطار لإجلاء رعايا البعثات الأجنبية. في هذا الوقت، كانت وسائل الإعلام تتناقل صوراً لما آلت إليه أسوار المطار ومدرجه، الذي تَحوّل هو الآخر إلى ساحة الهروب الكبرى.
(أ ف ب )

المشهد الأوّل:
في تمام الساعة 10:45 من صباح الاثنين، كانت الحشود تتدافع إلى مدرج مطار «حامد كرزاي» في العاصمة الأفغانية، كابول، بينما كانت طائرة نقل عسكرية من طراز «بوينغ سي-17» تهمّ بالإقلاع مغادِرةً البلد. تدافعٌ سبّبته خشية البعض وقلقهم من مآل استعادة حركة «طالبان» زمام السلطة، بعد عقدين من إطاحتها على أيدي الغزاة الأميركيين. مشهدُ الهروب والركض قرب عجلات الطائرة وخلفها، للحاق بمَن غادروا فجأةً من دون «إذن»، بدا أشبه بالتشبُّث بـ«حلم» لم يكن ليدوم إلى الأبد، لكن آخرين ظنّوا أن التعلُّق بذيل الطائرة أو أجنحتها سينجيهم من امتداد نارٍ يعتقدون أنها ستلتهم مستقبلهم، فتطايروا من جسم بعيد قبل بلوغ الهدف آخره، ليُنتشلوا في ما بعد جثثاً هامدة من على أسطح منازل العاصمة.
اندفعت جموع غفيرة من الأفغان المذعورين نحو المطار، في مسعى من هؤلاء إلى الظفر بفرصة أخيرة للهروب


المشهد الثاني:
يُقال إن أجواءً قاتمة سادت أروقة «البنتاغون»، حيث تابع عسكريون أميركيون، «عاجزون»، مشاهد الفوضى التي تعمّ مطار كابول. كان قلقهم نابعاً من بطء الإدارة الأميركية في إجلاء مَن سمّوهم «الحلفاء» الأفغان (المترجمين والمتعاونين) مِن الذين عملوا لسنوات طويلة يداً بيد الاحتلال، وباتوا يخافون على مصيرهم من دون حمايته. «حين علِمَت هذه الإدارة بأن الوضع الأمني يتغيّر بسرعة، أطلقنا، قبل عدّة أسابيع، عملية (ملجأ الحلفاء)، وهي جهد أميركي ضخم، ليس فقط للنظر والبتّ في منح تأشيرات لهؤلاء المهاجرين الخاصّين، لكن أيضاً لنقلهم إلى الولايات المتحدة في عملية إجلاء كبرى جواً»، وفق ما جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس. لكن البيت الأبيض انطلق، بحسب أحد مسؤولي «البنتاغون»، من مبدأ أن السفارة الأميركية في كابول ستبقى مفتوحة، وأن الحكومة الأفغانية ستحتفظ لنفسها بالسيطرة على البلاد على مدى أشهر قليلة بعد إتمام انسحاب القوات الأجنبية، بحسب التوقّعات المتفائلة لوكالات الاستخبارات الأميركية ومجلس الأمن القومي. ولم تتحدّث الإدارة إلّا في نهاية حزيران الماضي عن احتمال إجلاء المترجمين الأفغان قبل انتهاء انسحاب القوات الأجنبية. حينئذ، تمّ تشكيل «خلية أزمة لأفغانستان» بإدارة غاري ريد لتنظيم استقبال لاجئين أفغان في قواعد أميركية، في انتظار صدور تأشيرات الهجرة، لكن ذلك لم يحصل على أيّ حال.

(من الويب)

المشهد الثالث:
في طائرة شحن تابعة للقوات الجوية الأميركية من طراز «بوينغ سي-17»، تمّ إجلاء مئات الأفغان من العاصمة كابول. تكدّس هؤلاء، وفق صور حصل عليها موقع «ديفنس وان» العسكري، على أرضية الطائرة، حتى أن عددهم بلغ 640 شخصاً، في حين صمِّمت الطائرة لنقل 150 مظلياً فقط. يفيد الموقع بأن هذا العدد هو الأكبر على الإطلاق لأشخاص سافروا على متن طائرة «سي-17»، وهي طائرة شحن عسكرية ضخمة تُشغّلها الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ ما يقرب من ثلاثة عقود. وينقل الموقع عن مسؤول أميركي قوله، إن الطائرة لم تكن تنوي إجلاء هذا العدد الكبير، لكن «الأفغان المذعورين» الذين سُمح لهم باللجوء، دفعوا أنفسهم نحو رصيف الصعود إلى الطائرة، وبدلاً من إجبارهم على الإخلاء، قرّر الطاقم احتواءهم وتكديسهم بالمئات.