أدارت أميركا ظهرها ومشت، بعدما فشلت، على مدى عشرين عاماً، في إخماد حركة «طالبان». وبينما كانت تهمّ بمغادرة أفغانستان، بدا وكأن الولايات المتحدة اختارت تسليم الحركة زمام السلطة، نظراً إلى غياب أيّ خيارات بديلة، وإلى هشاشة السلطة التي اشتغلت لعقدين على ترسيخها، في إسقاطٍ لم تنجح معه كلّ محاولات تكييف المجتمع الأفغاني معها. رجحان الكفّة لمصلحة «طالبان» كان واضحاً منذ توقيع الاتفاق بينها وبين واشنطن، قبل عام ونصف عام، وهو ما أدركته هذه الأخيرة، وما دلّلت عليه التقارير المتعاقبة لوكالاتها الاستخبارية، وإن توقّعت صموداً أطول بقليل للعاصمة كابول، وقتالاً بين مسلّحي الحركة وقوات الأمن الأفغانية المُدرّبة والمجهزة على يد الأميركيين، يُحتمل أن يقود إلى حرب أهلية مديدة.على أن الحرب تبقى خياراً قائماً في بلدٍ متعدّد الإثنيات، عادت فيه «طالبان» لتبسط سيطرتها على مساحات جغرافية لم تكن في متناولها يومَ غزت أميركا أفغانستان، ودُفِع «تحالف الشمال» لقتال الحركة التي لم تصمد سوى أشهر قليلة قبل إطاحتها في نهاية عام 2001. على مدى سنوات الاحتلال العشرين، استطاعت «طالبان»، برعاية ودعم باكستانيَّين، تجميع صفوفها، واستمرت، طوال تلك الفترة، في قتال القوات الغازية. لكن ثمّة تغييرات طرأت، في هذا الوقت، على هيكل الحركة، وخطابها، خصوصاً مع تولّي أميرها، هبة الله آخوند زاده، الزعامة خلفاً للملّا أختر منصور الذي اغتيل على يد القوات الأميركية في أيار عام 2016. وفي واحدة من أولى تصريحاته العلنية، أعلن آخوند زاده، في 30 تموز 2016، أن التوصّل إلى اتفاق مع الحكومة الأفغانية ممكن إذا تخلّت عن حلفائها الأجانب، وخاطبها قائلاً: «إنّ دعمكم وانحيازكم للغزاة يشبه عمل تلك الوجوه البغيضة التي دعمت في الماضي البريطانيين والسوفيات. طالبان لديها برنامج لتوحيد البلاد في ظلّ الشريعة الإسلامية وأبواب العفو والغفران مفتوحة». تحوُّل الخطاب، وإبداء الاستعداد للجلوس مع مَن تعتبرهم «طالبان» «دمى الاحتلال»، قاد بالنتيجة إلى انشقاق مجموعة عسكرية بقيادة مولوي نقيب الله هونر، أعلنت الجهاد ضدّ الحركة بعد تعيين آخوند زاده زعيماً لها، متهمةً إيّاه بتولّي هذا المنصب بأمر من الاستخبارات الباكستانية. ولا تعني هذه التغييرات السابقة واللاحقة، على أيّ حال، أن الحركة أقلعت عن حُلم الإمارة الإسلامية، أو أنها باتت منفتحة على ما تسمّيه «التعليم العصري»، أو إجراء انتخابات. ذلك لم يتغيّر، ولكنه سيكون محصوراً ضمن حدود البلد الواحد، فيما ستتأثّر دول جوار أفغانستان، لا سيما باكستان وإيران، بموجة لجوء جديدة، في ظلّ التقارير التي تفيد بمغادرة كُثر العاصمة كابول هرباً من الحُكم «الطالباني»، والدعوات الدولية إلى فتح «ممرّات إنسانية» لِمَن يرغب في مغادرة البلد.
ثمّة تغييرات طرأت على هيكل الحركة، وخطابها، خصوصاً مع تولّي أميرها، هبة الله آخوند زاده، الزعامة


بين عقدين
«تأمين كابول يُعدّ مسؤولية كبيرة، وهي تختلف عن المدينة التي غادرناها قبل عشرين عاماً». لم يكن مألوفاً المشهد من داخل القصر الرئاسي بعد دخول قيادات الحركة ومقاتليها إليه. حدث ذلك بسرعة قياسية، لم تكن «طالبان» نفسها تتخيّلها، وفق ما أكد مسؤول الأمن المركزي، الملّا قاري صلاح الدين، بينما كان أحد الحرّاس الشخصيين للرئيس الأفغاني الفارّ، أشرف غني، يسلّم القصر الرئاسي إلى القادة الجُدد. «نريد حكومة تشاركية مع مختلف مكونات الشعب الأفغاني.. إذ لا يمكن أيّ جهة أن تسيطر على الحكم منفردةً»، أضاف. بدا أن هناك توجُّهاً واضحاً لبثّ رسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، عبر التأكيد أن الأمور ستكون على ما يرام، وهو ما ظهّره أيضاً تحفّظ الحركة عن إعلان شكل النظام الذي تنوي ترسيخه، وما إذا كانت قيامة «الإمارة الإسلامية» اقتربت. وفي إطار رسائل الطمأنة، أُعلن على لسان عضو المكتب السياسي لـ«طالبان»، سهيل شاهين، بدء الحركة محادثات لتشكيل حكومة شاملة هي في الأساس «مطلب الشعب الأفغاني. هم يريدون هذه الحكومة. وقد رأيتم أنه حال دخولنا مدينة يصطفّ أهلها على الطريق مرحبين بقواتنا»، ليخلص إلى أن «هذه انتفاضة شعبية. ونتيجة لذلك وقَعت جميع الأقاليم في قبضتنا، وبسبب دعم الناس استطعنا أن نقاوم الاحتلال لمدة 20 عاماً». وفي كلمة هنّأ فيها الأفغان، قال رئيس المكتب السياسي لـ«طالبان»، عبد الغني برادر، إن الحركة بلغت مرحلةً لم تكن تتوقّعها، ودخلت في مرحلة اختبار في شأن كيفية طمأنة الشعب الأفغاني إلى إمكانية التعايش معاً. ومع إطلاق الوعود بقرب اتّضاح شكل نظام الحُكم «العادل والخالي من الفساد»، أكدت الحركة على لسان الناطق باسمها، محمد نعيم، انفتاحها على التفاوض مع أيّ جهة، ورغبتها في إقامة علاقات مع «المجتمع الدولي»، حتى لا تعيش في «عزلة»، وسط تعهّدات بـ«احترام حقوق المرأة والأقليات وحرية التعبير في ضوء الشريعة الإسلامية».
في الـ28 من تموز 2020، أصدر آخوند زاده بياناً لمناسبة عيد الأضحى، أعلن فيه أن الجماعة على وشك «إقامة حكومة إسلامية نقيّة»، بعدما أوفت «طالبان» بالتزاماتها الواردة ضمن اتفاق السلام الموقّع مع الولايات المتحدة في 29 شباط من ذلك العام، والذي وصفه زعيمها بأنه «نصر كبير» للحركة. لا شكّ في أن الاتفاق الذي أشرف الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، على إتمامه، وضع «طالبان» على سكّة الحُكم، لا سيما بعد تعقُّد مفاوضات السلام، وإصرار الأميركيين، في عهد جو بايدن، على إتمام الانسحاب، وعدم الالتفات إلى مآل حربهم الطاحنة.