يوثّق التاريخ التركي الحديث مواعيد حروبه وانقلاباته، في ما يعكس الوجه «العسكري» للدولة، وفي الوقت نفسه القلق الذي يعتري حكّامها. في هذه الأيام، وتحديداً يوم الـ24 من تموز الجاري، تمرّ الذكرى الـ98 لـ«معاهدة لوزان» الموقّعة عام 1923. والمعاهدة التي سيُحتفل بعد سنتَين بذكراها المئوية، تكاد تكون العنوان الأساسي الوحيد لوجودية الكيان التركي الحالي. وإذا كانت قضايا «فرعية» مِن مِثل ولاية الموصل (شمال العراق حينها) أو الإسكندرون أو غيرها تُثار في نقاشات موسميّة، كما في دعوة الرئيس التركي الراحل، طوروغوت أوزال، إلى احتلال شمال العراق في حرب الخليج الثانية عام 1991، أو دعوة بعض المسؤولين الأتراك إلى البقاء في إدلب وعفرين لحماية حدود لواء الإسكندرون، فإن البحث في «معاهدة لوزان» مسَّ بأسس قيامة الكيان التركي على الحدود الحالية.بدأ النقاش الواسع حول المعاهدة في أيلول 2016 من جانب الرئيس التركي الحالي، رجب طيب إردوغان. ولعلّ أهمّ ما جاء في خطاباته وتصريحاته أن «لوزان» لم تكن نصراً، بل هزيمة، وهو ما أثار ضجّة كبيرة باعتبار المعاهدة تلك رسمت وثبّتت القسم الأعظم من حدود تركيا الحالية إثر هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وجعلت الأتراك يشكرون الله على أن تبقّى لهم وطن بهذه السعة، بعدما لحظت «اتفاقية سيفر» لعام 1920 وطناً تركيّاً بحجم أنقرة وضواحيها. مواقف إردوغان أتت على خلفية أن ما حصلت عليه تركيا في «لوزان»، كان يجب أن يكون أكبر، وفي رأس الأراضي التي طالب بها عدد كبير من الجزر العائدة اليوم إلى اليونان، علماً أن تركيا خسرت هذه الجزر بين عامَي 1911 و1912 لمصلحة كلّ من اليونان وإيطاليا، ولم تخسرها في لوزان عام 1923. وبطبيعة الحال، فإن أثينا شعرت أنها معنيّة بالردّ على مواقف إردوغان، إذ أعلنت أنه إذا كان الرئيس التركي «يريد إلغاء معاهدة لوزان، فنحن نطالب بالعودة إلى اتفاقية سيفر».
لكن، في السياق، وسّع إردوغان مفهوم «الحدود الواجب أن تكون»، لتشمل هذه المرّة شمال سوريا وشمال العراق، في إطار ما يسمّى بـ«الميثاق الملّي». وتحت هذا الشعار، وليس شعار محاربة «داعش»، انطلقت العمليات العسكرية التركية الثلاث: «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام»، والتي حقّقت، حتى الآن، أهدافاً كبيرة مِن مِثل احتلال قسم كبير من شمال سوريا، واحتلال أجزاء من شمال العراق. ولكن يبدو أن تحقيق الأهداف يتطلّب أحياناً تغييراً في التكتيك، لا في الإستراتيجيا، ومن ذلك ما ظهرت عليه ذكرى لوزان في هذا العام لجهة خُلوّ تصريحات الرئيس التركي وشريكه دولت باهتشلي، رئيس حزب «الحركة القومية»، من تصريحات نارية، فما بعد انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، يختلف عمّا قبله، ولو في بعض القضايا. لوزان، في بيان إردوغان اليوم، هي «الوثيقة الدولية التي صادقت على حرب التحرير الوطنية». وإذا كانت تركيا ستصبح «أقوى وأكثر إستقلالاً ورفاهية على الصعد كافة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية، في عام 2023»، كما وعد، فإن ذلك مربوط بما تَحقَّق من «نجاحات» من سوريا إلى ليبيا ومن شرق المتوسط إلى الحرب على الإرهاب. لم يُشِر إردوغان إلى ما يعتبره «هزيمة». بدا مستعدّاً لفتح صفحة جديدة مع الآخر ومدّ يد التعاون من دون استفزاز لا للخارج ولا للداخل العلماني، ربطاً أحياناً بالحسابات الانتخابية. وهو ما أكده أيضاً شريكه باهتشلي في رسالة للمناسبة نفسها، اعتبر فيها أن لوزان كانت «التاج السياسي والدبلوماسي لحرب التحرير التركية». وردّاً على ما إذا كانت نصراً أو هزيمة، قال باهتشلي: «هل هي نصر أم هزيمة؟ بدلاً من البحث عن جواب على ذلك، يجب أن نعترف بالمعاهدة ونقدّر أهميتها فهي وثيقة افتخار ثبّتت وجود تركيا... إن المعاهدة انتصار للهلال الذي لم يسقط في فخّ مواجهة الصليب».
ما بعد انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة يختلف عمّا قبله ولو في بعض القضايا ومنها لوزان


مع ذلك، تبدو «هدنة» إردوغان مع «لوزان» مثقلة بالشكوك. فالرئيس التركي احتفل، كما في السنة الماضية، بتحويل آيا صوفيا إلى جامع في الذكرى السنوية للمعاهدة، لكن من دون أن يشير بكلمة واحدة إلى «لوزان» التي أسّست الكيان التركي الحالي، وحالت دون ضياعه بالكامل. أكثر من ذلك، احتفل البعض بتحويل آيا صوفيا إلى جامع كما لو انه هدف سُجّل في مرمى المعاهدة، التي وصفها مرّة أحد مستشاري إردوغان بأنها «فرمان موت» لتركيا الكبيرة، بحسب ما أورد الكاتب باريش تورك أوغلو، في صحيفة «جمهورييت». من جهته، رأى سليمان سيفي أوغون، الكاتب في صحيفة «يني شفق» المؤيدة لإردوغان، أن اعتبار لوزان «انتصار قرن» غير منصف، إلّا في حال تصفية شوائب المعاهدة وتصفية الحساب مع عملاء الداخل وحُماتهم في الخارج. وانتقد السفير المتقاعد، حسن غوغوش، من «مركز أنقرة للسياسات»، بدوره، الداعين إلى تغيير «لوزان»، لأن المعاهدة أعطت لتركيا غالبية الأراضي التي رسمها «الميثاق الملّي»، وأبطلت مفاعيل اتفاقيّتَي «سيفر» و«موندروس»، وفتحت الباب أمام إلغاء الامتيازات الأجنبية، وأسَّست دولة تركية مستقلّة بالكامل متساوية مع دول العالم. ووصف «لوزان» بأنها «الطابو المؤسّس للجمهورية التركية»، مذكِّراً «العابثين من المسؤولين» بقول للشاعر محمد عاكف، واضع نشيد الاستقلال: «ربّي لا تكتب على هذا الشعب كتابة نشيد وطني مرّة ثانية».
وفي وقت يعمل فيه إردوغان على شطب العامل الكردي من الحياة السياسية بمحاولة حلّ «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، وتجيير جزء من الأصوات الكردية لصالحه في الانتخابات الرئاسية عام 2023، لم يَغِب الأكراد عن مناسبة مرور 98 عاماً على «معاهدة لوزان». فهُم كانوا يأملون، من خلال «اتفاقية سيفر» (1920)، الحصول على ما وعدت به الاتفاقية من حكم ذاتي للأكراد (اتفاقية سيفر وعدت الأرمن أيضاً بدولة في شرق الأناضول). لكن حصل عكس ذلك عندما تجاهلت «معاهدة لوزان» الوجود الكردي، ولم تُشِر إليه بتاتاً، بل إنها حرمتهم من الاعتراف بهم كأقلّية مثل الأرمن واليهود. وفي هذا، يكمن أساس المشكلة في تركيا (الأمر نفسه ينطبق على المسألة العلوية حيث تمّ تجاهل العلويين كأقلية لها حقوق إيمانية وثقافية). وفي هذا السياق، كتب دوغان أحمد، في صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الكردية المؤيِّدة لـ«حزب العمال الكردستاني»، أن «معاهدة لوزان» هي «وثيقة إنكار الحقوق الكردية»، قائلاً إن مناقشتها «يجب أن تعني الأكراد أولاً وأخيراً، لأن القمع والتهجير والمجازر والصَهر الذي يتعرّضون له منذ مئة عام يُبرَّر بمعاهدة لوزان». ورأى أن «الشعب الكردي الذي هو من أقدم شعوب المنطقة محكوم عليه بالموت، بالحرمان من هويّته ولغته منذ لحظة توقيع المعاهدة وتحوُّل مناطق كردستان الأربع خلال العقود اللاحقة إلى مقبرة للشعب الكردي»، معتبراً أن «استمرار المشكلة الكردية يُعدّ دليلاً على أن معاهدة لوزان لا يمكن أن تستمرّ. وأكبر دليل على ذلك سقوط الحدود بين روج آفا (شمال شرق سوريا) وباشور (شمال العراق)».