من داخل القاعة التي اغتيل فيها رئيس السلطة‌ القضائية السيد محمد حسيني بهشتي عام 1981، اختار تلميذه رئيس إيران الجديد ابراهيم رئيسي عقد أول مؤتمراته الصحفية، في دلالة على تكريس الانتماء الذي وضع نفسه فيه: «التيار الثوري»، بعيداً عن التصنيف السائد في إيران والذي اختصر في السنوات الماضية بين إصلاحي وأصولي.مؤتمر جاء بعد يومين من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، قرر رئيسي فيه، وضع الخطوط العريضة لسياساته وخططه الداخلية والخارجية في السنوات الأربعة المقبلة حيث أخذ الملف الإيراني الداخلي، الحيز الأكبر من كلامه. وفيه أكد أن أولى خطواته ستكون وضع حكومة جديدة لتنفيذ السياسات المرتقبة، على كل الصعد وبكل الملفات.

(لا) تعويل على رفع العقوبات
ومن الأيام الأولى سيبدأ الرئيس، حسب ما قال، بخطوات عملية لحل مشاكل الاقتصاد. قد تكون بارقة الأمل الأولى، رغم تصريحه بأنه لا يعول بالكامل عليها، ابرام إدارة روحاني الاتفاق مع مجموعة الـ 5+1 لانعاش الاتفاق.
وبناء على تصريحات مدير مكتب الرئيس حسن روحاني، محمود واعظي، فإن المحادثات بشأن الاتفاق النووي وصلت إلى مرحلة متقدمة للغاية، وجرى الاتفاق على إلغاء العقوبات حول البنوك والأموال المحجوزة والتأمين والنفط والنقل. بالإضافة الى إلغاء 1040 عقوبة فرضت في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورفع مؤسسات وأفراد تابعين لمؤسسة القيادة العليا في إيران عن القائمة السوداء.
هذه الخطوة ستساعد الرئيس الجديد في الشروع سريعاً، بتحقيق أهدافه الأولية أهمها تحسين الحالة المعيشية حسب ما وعد، بالإضافة إلى تخفيف تكاليف القطاع الصحي للمواطن بنسبة 50%، وتفعيل المعامل والمصانع المعطلة على امتداد البلد.

توليفة الحكومة
فريق العمل الوزاري الذي سيساعده بتنفيذ أهدافه لم يعلن بعد. كثرت التوقعات بشأن الأسماء بعدما صُبغت إيران باللون المحافظ على جميع مفاصل النظام، لكن رئيسي عارض القراءات التي رأت أن الحكومة ستكون من تيار محدد، بل أكد أن حكومته خالية من الانحياز.
وكان المتحدث باسم الحملة الانتخابية لرئيسي، مهدي دوستي قد قال فيما يتعلق بالتكهنات حول المجلس الوزاري: «ليس هناك صحة لهذه التكهنات حول حكومة السيد رئيسي المحتملة، وإذا كان الناس يثقون فيه، فسيتم تشكيل حكومة شابة وجديدة ونخبة وفعالة ومن خارج الفصائل».
كلام دوستي، ترجمه رئيسي في مؤتمره الصحافي. وأهم ما ورد فيه عن تشكيل الحكومة، قول رئيسي أنه لن يكتفي بالنخب السياسية المعروفة، بل سيستقصي طاقات من الشعب. ودعا، لأول مرة في تاريخ الثورة، كل النخب والأساتذة والكفاءات التي ترى في نفسها أهلية أن تكون جزءاً من الحكومة، الى تقديم سيرها الذاتية وتقدم أوراق اعتمادها على موقع سينطلق قريباً.
الحكومة المقبلة والتي سيتبين أسماءها قريباً، ستتشكل وفق محددات عدة، أولها ما أعلنه في مؤتمره الصحافي. وهؤلاء سيأخذون الحقائب التي تُعنى بالخدمات، مثل الصحة، والأشغال العامة والاتصالات... وبالطبع تمتلك خيارت هذه الوزارات هامش أوسع على صعيد الأسماء.
وبغض النظر عن التيارين الإصلاحي أو الاصولي، ستكون الأسماء منسجمة مع طروحات رئيسي.
بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة 48% فقط، وهي الأدنى منذ انتصار الثورة في عام 1979


فللأخير، باع طويل في الداخل الإيراني، من أيام انطلاق الثورة، إلى استلامه سدة الرئاسة القضائية قبل عامين. يعرف بشكل دقيق من يتناغم معه في الرؤية والمقاربة ــ رغم اختلاف التيارات ــ لتبيان وتنفيذ ما يريد، والحفاظ على عقيدة الدولة وأسس النظام. مجلس الوزراء هذا، سيضع رئيسي، حسب القوانين، تحت مساءلة البرلمان، مما يجعله لا يساوم على الأسماء التي تريد العمل معه في المرحلة المقبلة.
من جهة أخرى، لا يريد رئيسي مشاكل داخل حكومته تندرج تحت إطار التجاذب السياسي، ناهيك عن أن الأوضاع لا تحتمل الأخذ والرد. في الداخل المشاكل الاقتصادية تتزايد، والخارج ينتظر نهاية جلسات فيينا، ليبنى على الشيء مقتضاه.
والواضح أن مجلس الوزراء لن يقوم على قاعدة تصفية الحسابات بين التيارات. برغم الحديث في الآونة الأخيرة عن سعي عدة شخصيات الى الخروج من تحت مظلة هذه الثنائية. فعلها رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني يوم ترشحه للانتخابات الرئاسية، وحدد أنه ينتمي الى «مدرسة مطهري». رئيسي أيضاً، أكد أنه ينتمي الى «التيار الثوري» أو «جبهة الثورة». وعليه ينبغي الالتفات الى محدد أساسي سيطرح نفسه داخل تشكيل الحكومة، وهو أن هناك، بالنهاية، تيار مع ناخبيه فاز بالانتخابات، ويريد أن يأخذ فرصته ليطبق أفكاره الاقتصادية، وتوجهات السياسية.
والمقاعد التي سيتم انتقائهم فيها، وبتنسيق كامل مع المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي هي الوزارات التي تُعنى بالشأن القومي: الخارجية والداخلية والإطلاعات والدفاع.

ديبلوماسية ثورية؟
أبرز الخيارات تدور حول مقعدي نائب الرئيس الأول، ووزير الخارجية. وبالطبع، سيكون لفريق الرئيس الذي عمل معه أثناء الحملة الانتخابية حصة بارزة، على رأسهم رئيس الحملة الانتخابية لرئيسي علي نيكزاد، الذي وُضع اسمه على لائحة المرشحين للمنصبين.
الاسم الآخر، المنافس له هو كبير المفاوضين النوويين السابق سعيد جليلي، المرشح الذي انسحب لصالح رئيسي نفسه. عادةً ما يحصل نوع من الاتفاق، مع المرشحين المنسحبين، للاستفادة من خبراتهم فيما بعد.
جليلي يُحسب على نفس التيار الثوري الذي يضم رئيسي، لكن الأول كان قد أنشأ بعد خسارته في الانتخابات عام 2013 تيار «دولة الظل». نشط بين النخب والجامعيين وخبراء وأصحاب مراكز أبحاث. وعلى مدار 8 سنوات وضع خطته لرئاسة الجمهورية التي عرضها على الناس في الخطابات والمناظرات التلفزيونية. وبعد انسحابه أعلن في رسالة بعثها الى رئيسي أنه سيضع كامل خططه ودراساته في خدمته.
يعتبر جليلي كبير المفاوضيين النووين، ولذلك سيكون مقعد وزارة الخارجية الخيار الآخر له خلفاً لمحمد جواد ظريف، صاحب «دبلوماسية الابتسامة».
ظهر لإيران في السنوات الثماني الأخيرة، وجهان أمام العالم الخارجي. وجه دبلوماسي اشتهر بابتسامته مثَّله ظريف أمام الملأ وفي داخل أروقة السياسة والمفاوضات. ووجه ثوري مثله قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني على جبهات الحرب داخل سوريا والعراق.
عمل كل وجه في حقله دفاعاً عن إيران، خصوصاً عام 2015، أيام توقيع الاتفاق النووي من جهة، وأيام اشتداد المعارك مع الجماعات التكفيرية من جهة أخرى.
صورة ظريف التي اجتذبت الإعلام الإيراني والغربي على حد سواء، ورسخت أيام الاتفاق النووي، سُوق لها على أنها صورة إيران المنتفتحة على الغرب. سواء أراد ظريف ذلك، أم لم يرد، الا أنه هذا ما تلقاه الإعلام بشكل عام، واستغله كل على طريقته. مع العلم أن ظريف قال عن ابتسامته في كتابه «سعادة السفير»: «في الدبلوماسية عليك أن تبتسم دائماً، ولكن عليك ألا تنسى أبداً أنك تتحدث مع عدو».
في نفس الوقت، ظهرت بكثرة صور سليماني العفوية على الجبهات، وانتشرت بشكل مكثف وهو يقف مع المقاتلين، يرشدهم حيناً، ويحدثهم حيناً آخر.
باتت الصورة مقابل الصورة، ليتذكر الجميع أن إيران تملك تعدداً بالتيارات والتوجهات. وبالتوازي مع خط المفاوضات، هناك خط الثورة الداعم لجبهات المقاومة.
يبدو أن هذا الزخم في تعدد التوجهات السياسية، سينخفض منسوبه في السنوات الـ 4 المقبلة، على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً، إذ يتوقع أن يكون هناك تماه بين رؤية الحرس الثوري، ورؤية وزارة الخارجية المقبلة.
وبالطبع، سيستفيد رئيسي من التوحد في صفوف النظام الأساسية، وسيساعده ذلك على إعادة ترميم ثقة الشعب مع إيران الدولة وإيران الثورة، إذا ما حصل إصلاحات جذرية عميقة وملموسة. فالانتخابات الجمهورية، حسب قول المرشد الأعلى، هي مؤشر على رضى الناس، كما أنها استفتاء غير مباشر على نظام الجمهورية. يأتي هذا الكلام بعد أن بلغت نسبة الانتخابات، لعوامل عدة، الـ 48%، وهي أدنى مستوى لها منذ انتصار الثورة عام 1979.
هذه النسبة، وهذه الأرقام، تشكل عبئاً على رئيسي تجبره على العمل سريعاً، وبفعالية. نجح بهذه المهمة سابقاً، مع وصوله الى سدة رئاسة السلطة القضائية، لكن هذا بالطبع سيضعه، كما حصل، في مواجهة مع مراكز قوى داخل النظام نفسه.
وعلى حد تعبير حجة الإسلام حاج صادقي، ممثل المرشد الأعلى في الحرس الثوري الإيراني، فإن «الانتخابات الأخيرة لم تكن فوز مرشح على مرشحين آخرين أو جماعة سياسية على جماعة سياسية أخرى ، بل انتصار الجبهة الثورية وانتصار المحافظة على الطاغوت والجبهة المتغطرسة».